العدد الثالث / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات هذا العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = ميزان التفسير وعدّة المفسر

استناد العلوم إلى القرآن والاستعانة بها في تفسيره:

وهذا القانون عينًا يعمل به  في سائر الموازين، فالقواعد النحوية التي هي عند النَّحويين كالوحي المنزل، يجب أن تؤخذ من القرآن، وتُعرض عليه، باعتبار أن منزّل القرآن هو خالق النحو والنَّحويين وهو أعلم بقوانينه من سيبويه والكسائي وغيرهما، ولازمه أن كلّ قانون نحويّ أو صرفيّ خالف صريح القرآن الكريم أو ظاهره، واقتفى تأويله وإخراجه عن معناه، يطرح ويغيّر على طبق القرآن حتى يحصل عندنا (نحوٌ قرآني) و(صرف قرآنيّ) و(بلاغة قرآنية)، وهكذا سائر العلوم الأدبية.

ويُعرف بهذه الطريقة القواعد المجعولة على طبق الأهواء والمذاهب والآراء،  كما اخترع المجسّمة قولهم بأن [لن] لتأكيد النفي، فرارًا عن إلزام الشيعة والمعتزلة لهم بقوله تعالى {لَن تَرَانِي}([1])، الدال على نفي رؤيته تعالى إلى الأبد، فأرادوا التخلّص عن جوابهم باختراع عدّة من مجسّمة النحو معنى [التأكيد]، في مقابل التأبيد ، وهكذا أمثاله، ومثل دعواهم أن كلمة [هؤلاء] وضمير [هم]، لا تختصّان بذوي العقول، بل تطلقان على غيرهم، حتى يتمكّنوا من صرف قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء... قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ}([2])،عن إرادة أشباح الخمسة الطيّبة وأنوارهم، إلى إرادة الحجر والشجر والكلب والخنزير وغيرها.

القرآن والعقل:

وكذلك القواعد الفلسفية تُعرض على القرآن نصوصه وظاهره فيطرح ما خالفه منها ويبقى ما لا يخالفه بعد الغربلة، فيستعان بها في تفسير القرآن.

وكذلك المكتشفات الجديدة فيها حقايق واضحة مثل وجود الجراثيم وبعض أحكام الذرّة والأفلاك وغيرها من الأمور التي صارت مثل البديهيات، وأمور أخرى هي فرضيات علمية أو أطروحات ونظريات مبحوث عنها، تسلّمها بعضهم أو أكثرهم، وردّها أو توقّف في قبولها الآخرون، أو سكتوا عنها، أو أنهم تسلّموها جميعًا مع اعترافهم باشتمالها على مواضع شكّ وإبهام وعُقد غير منحلّة.

والحاصل: أن ما اتضحت حاله باليقين يؤخذ أصلاً موضوعيًا لتفسير القرآن، وما بقي فيه نقطة إبهام فإنه يُعرض على القرآن.

المحكمات والمتشابهات في كتابي التكوين والتشريع:

وحاصل ما ذكر: أن العلوم بأجمعها عبارة عن القوانين المنتزعة عن عالم التكوين والآيات المقروءة من كتاب الله التكويني.

فكما أن الكتاب التدوينيّ يشتمل على آيات محكمات هن أمّ الكتاب، وأخر متشابهات، كذلك الكتاب التكوينيّ فإن فيه آيات محكمات وقوانين ثابتات واضحات تُقرأ وتفهم بلا ريب وتشكيك، وهناك آيات متشابهات وقوانين مكتشفة ظنًّا أو اطمئنانًا قريبًا من اليقين من دون أن يصل إلى حدّ اليقين.

فالواجب على المفسّر أخذ المحكمات من كلٍّ من كتابي التكوين والتدوين، ثمّ جعل المحكمات من كل واحد منهما مفسّرة للمتشابهات من الآخر، فمحكمات القرآن تفسّر مبهمات عالم التكوين ومتشابهاته، ومحكمات عالم التكوين تفسّر مبهمات القرآن ومتشابهاته.

وحيث إن كلاً منهما صدر من حكمته ورحمته وعلمه تعالى، فإن الأفعال والأعمال التي تصدر منه تعالى في العالم الخارجي على طبق علمه وحكمته وساير صفاته، والقرآن هو أقواله وكلامه تعالى الصّادر عن علمه وحكمته ورحمته وساير صفاته، ودلالة الفعل والعمل أصرح من دلالة القول والكلام، فليس الاستعانة بالقوانين الثابتة في العلوم في تفسير القرآن بمعنى جعل كلامه تعالى تابعًا لكلام غيره أو لنظريات البشر .

إذ كما أن ما نفهمه من محكمات القرآن ودلالته الصريحة أو الظاهرة ليست آراء لنا بل هي عبارة عن وصولنا إلى ما أراد الله إيصاله إلينا، من علوم القرآن، وتحقيق لما يصرّ القرآن الكريم عليه من كونه {مُّبِيناً}([3]) و{تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}([4])، و{قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}([5])، وأمثال ذلك.

كذلك ما أدركناه من القوانين الكونية والعلوم المتّخذة عن عالم التكوين - اعتبارًا بما أراد الله العبرة به من آياته في الآفاق والأنفس، وما أراد الله إراءته لنا ووصولنا إليه بقوله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}([6])-، فإنها ليست آراء لنا، بل هي قراءة لآيات الآفاق والأنفس.

فتفسير الآيات بما تنطبق عليها من العلوم اليقينية بلا تكلّف ليس تفسيرًا بالرأي ولا جعل القرآن تابعًا لآراء هؤلاء.

معنى قراءة الكتابين والتدبّر فيهما:

وكما أن قراءة الكتاب التشريعي قد تكون مع التدبّر والتفهّم والتعقّل والوصول إلى مرامي مُنزله ومراداته من الآيات ، فتكون قراءة يريدها ربّ القرآن ومنزّله ، وقد تخلو عن هذه الخاصيّة فتكون قراءة ظاهرية ، ليس فيها إلا لقلقة لسان ولعب بالحروف والحركات لا تتجاوز حناجرهم على حدّ تعبيره (صلى الله عليه وآله) فيقول في حقّهم: شرار أمّتي قرّاء القرآن.

كذلك قراءة عالم التكوين قد تكون قراءة ظاهرية تخلو عن التدبّر وتنحصر في مشاهدة ظاهر العالم {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}([7])، ولا يُستنبط منها شيء ولا يتدبّر في آياتها ولا يُتأمّل في نُكاتها فلا يتجاوز عن حدود الحواسّ إلى العقل والفهم العميق.

وقد يقرأها متدبّرًا لآياتها، متأمّلاً في قوانينها ونواميسها مستنبطًا لأحكامها فاهمًا لأسرارها، متعقّلاً لمواضع دلالتها على علم بارئها وحكمته ورحمته ولطفه وجماله وجلاله وكماله.

فكما أن كلا الكتابين مُشَرّفان بتشريفه مُكَرّمان بالإضافة إليه، كذلك قراءة أحدهما بالتدبّر ليس بأقلّ فضلاً وأنزل ثوابًا من قراءة الآخر، فمن استعان بالآيات المحكمات التكوينية في تفسير آيات الكتاب التدويني، لا يناسب أن يقال أنه قدّم غير القرآن على القرآن، بل الأنسب أن يقال إنه جعل أحد كتابيه تعالى مفسّرًا لكتابه الآخر.

وحيث إن القرآن بمنزلة بيان وتشريح موجز لما في عالم التكوين وحكاية عن الحقائق الكونية من الخالق والمخلوق، وروابط أحدهما بالآخر، فتكون بينهما محاكاة واقعية ومرآتية ذاتية تُرى صورة كل واحد منهما في صفحة الآخر، وتنعكس فيه خير انعكاس فكأنه تعالى أوضح نكات ما عَمِلَه وفَعَله في عالم التكوين في كتابه التدوينيّ، وبيَّنَ في مقام الخارج بيانًا عمليًا لما في آياته التشريعية.

الرابطة بين علم التفسير وساير العلوم:

قال العلامة الطباطبائي (قدس سرّه): (وقد وضعنا أبحاثًا مختلفة، فلسفيةً وعلميةً وتاريخيةً واجتماعيةً وأخلاقيةً حسب ما تيسّر لنا..)([8]).

أقول: ذكر المباحث العلمية في ضمن التفسير يكون على قسمين :

أحدهما: ذكرها مرتبطًا بالآية التي تبحث عنها سواء كان يقصد عرضها على القرآن ومعرفة صحيحها وسقيمها عن طريق معرفة ما يخالف القرآن منها مما يوافقه، أو كان القصد جعلها من أدوات التفسير التي يستعان بها على فهم مراداته تعالى.

الثاني: إيراد هذه الأبحاث لمجرد التشابه والمناسبة والاستطراد، كما هو الغالب على تفسير الرازي والمنار والطنطاوي، فإنهم إذا وصلوا إلى آية فيها ذكر صلاة القصر في السفر مثلاً استرسلوا في بيان الفروع التي ذكرت في كتب المذاهب الأربعة من دون ارتباطها بالآية، وليس ذلك لأجل الاستعانة بما أوردوه على تفسير الآية، ولا بقصد عرضها على القرآن حتى يُعرف صحيحها من سقيمها.

وكذا في كل مسألة كلامية فإنهم يخوضون في نقل الأقوال والأدلة من دون لحاظ إحدى الجهتين المذكورتين.

وكذا في القضايا التاريخية يملأون الكتاب بالأساطير الإسرائيلية بالنسبة إلى ما يرجع إلى تواريخ من سبق على نبيّنا (صلى الله عليه وآله) زمانًا، من الأنبياء أو الأمم السابقة ، فيركنون إلى الذين نهى الله عن الركون إليهم من أحبار اليهود والنّصارى حتى ولو كان مخالفًا لصريح القرآن فضلاً عن ظاهره.

وكذا في الحوادث المقارنة لحياته الشريفة من غزواته وغيرها يسترسلون في ذكر الروايات المجعولة في زمن معاوية وغيره من الخلفاء السابقين عليه والمتأخرين عنه مع وضوح آثار الجعل والتحريف فيها .

وهذا النوع من البحث ورد أحيانًا في ما ذكره سيدنا الأستاذ من المسائل العلمية الفلسفية أو الأخلاقية أو التاريخية أيضًا، بمعنى أنه ورد في بحث علمي مناسب لموضوع الآية من دون قصد الاستعانة بها على توضيح الآية وتفسيرها، أو قصد عرضها على القرآن لمعرفة ما يوافقها حتى يؤخذ به وما يخالفها حتى يطرح .

ومن أوضح مصاديق ما ذكرنا: التفاسير الحديثية، فإن قانون التفسير يقتضي الاقتصار على الروايات الواردة في الموضوع المذكور في الآية، بشرط أن تكون الرواية ناظرة إلى الآية وشارحة لها، أو يكون المراد ذكر الرواية وعرضها على القرآن ليعرف صحتها وسقمها.

وأما مجرد اشتراك الرواية مع الآية في الموضوع فيورد في ضمنها كل رواية تشترك معها في الموضوع وإن لم يقصد الاستعانة بها على تفسير الآية، ولا الاستعانة بالآية على تشخيص الصحيح من السقيم في الروايات فهذا خلاف قانون التفسير الروائي.

انتهى المقال

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - الأعراف من الآية 143

[2] - البقرة من الآية 31، ومن الآية 33.

[3] - {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} النساء من الآية 174.

[4] - النحل من الآية 89 .

[5] - الزمر الآية 28.

[6] - فصلت من الآية 53.

[7] - الروم من الآية 7.

[8] - الميزان في تفسير القرآن - الطباطبائي / مؤسسة الأعلمي بيروت ط1 ج1 ص17 .

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية