العدد الثالث / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإمامة والحياة

الشيخ علي ياغي*

 مدخل:

على مدى الزمان الذي عمَر فيه الإنسان هذه الأرض وتقلّب على وجهها، كانت تواجهه المتاعب وتتحدّى إرادته المصاعب، يتغالب معها، وقلّما استطاع أن يغلبها، فهو في خوضٍ دائم، لا يخرج من عثرةٍ حتى يقع في أخرى، فعلى مختلف صُعُد الحياة، السياسي منها والاجتماعي والاقتصادي والتنظيمي العام، لم يهتدِ هذا الإنسان إلى طريق الاستقرار وإلى مدخل الحياة الخالية عن العقبات... حتى يُخيَّل لهذا الإنسان، أن اللااستقرار وعُقَد الحياة وكثرة متاعبها ومصائبها، هي قدر مقدور في لوح مسطور، سيّما وأن للتاريخ - فضلاً عن مشاهدات الزمن الذي نحياه - حكاياته التي لا تتسع لها الطوامير عن العثرات والهنَات المميتة، والتهالك في مسيرة هذا الإنسان على وجه الأرض، مع أن نيّة الاستقرار وحبّ الطمأنينة والميل إلى الحياة الوادعة هي سمة الإنسان وأمنيته ورغبته.

وبين هذه النية والرغبة والميل، وبين الواقع الذي عليه حياة الإنسان في مسيرته المعذّبة، يمكن أن نطرح هذا السؤال:

هل بالإمكان أن نعيش الحياة على وجه الأرض، أم أن الحياة بالمعنى الذي نتوق إليه، هي أبعد من الأسباب الموجودة في هذه الحياة الدنيا؟

هذا ما نحاول الإجابة عليه، ومن الله نستمد العون.

نظرتان إلى الحياة:

إحدى النظرتين: نقصرها في جانب الأسباب المعِدَّة للحياة، والمهيِّئة لظروفها والمنتِجة لمعناها الذي نتوق إليه.

وفي مساحة هذه النظرة لا نرى الحياة إلا كاملة المعنى، فإن الأسباب المعِدَّة للحياة هي وجود ممتلئ رابٍ لا فقر فيه ولا عوز يعتريه.

قال تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}([1]).

وقد تلاءمت جميع هذه الأسباب فيما بينها، وانسجمت في أدوارها وتكاملت في صناعة دورة الحياة على أفضل وزان وأتم نظام، قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ*الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ*وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ* وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}([2]).

وقال تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ*فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}([3]).

إلى غيرها من عشرات الآيات المباركة التي تؤكّد - معزَّزةً بالوجدان -، أن جميع ما له دخل وشأن في السبب المُعِدّ للحياة متوفر وحاصل على أفضل نظمٍ وأتـمّ رسم.

أما ثاني النظرتين إلى الحياة: فهي ما نتكلّف فيها الفحص والتأمّل والوقوف على واقع الحياة في طور المفاعلة بين الأسباب المعدّة، وبين ما تحدثه إرادة الإنسان في تلك الأسباب، فإنه من الواضح الجلي الذي لا لبس فيه، أن لفعل الإنسان أثرًا في صفحة الكون يصل في بعض الأحيان إلى حدّ الإضرار الفادح في معادلة التوازن الكوني.

وقد عبّرت الآيات ولو بلسان التحذير عن هذا الأثر، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}([4])،وقوله: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}([5])، وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}([6]).

إلى غير ذلك من تعبيرات القرآن الكريم التي تحمل هذا المعنى، وتؤكد على أن أحوال الإنسان وأفعاله التي ظرفها الكون ومساحتها عالم المادة من هواء وماء وتراب ومخلّقات أخر، تؤكِّد أن كل حال وفعل للإنسان ينعكس في مرآة الكون، وتُحدِثُ فيه أثرًا جديدًا، وهذا الأثر إما أن يثبِّت معادلة التوازن، وربما يزيد في إرهافها ودقّتها، وإما أن يُخل بالمعادلة ويُخسر الأسباب عن قدرها وتوازنها الطبيعي.

والذي نلاحظه بوضوح تام، أن نصيب الأسباب المُعِدَّة للحياة من فعل الإنسان، كانت في الغالب ضد توازنها، وضد قانونها المعبَّر عنه بالسنن الكونية، فلطالما بدّلت أحوال الإنسان وأفاعيله ونواياه وتصوراته في طبائع الأشياء، فانقلبت المعادلة في السنن الكونية من ملامس الرحمة إلى مخالب النقمة، ومن دواعي الهناء إلى علل الشقاء.

ومن أمثلة ذلك ما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}([7]).

إذن نحن بين واقعين اثنين تتردد بينهما الحياة، غير أن واقعها الأول أضحى واقعًا نظريًا تجريديًا بحتًا، بعد أن صبغت إرادة الإنسان هذه الحياة وأسبابها بطابع التبعية، والانفعال بمحدثات الإرادة البشرية في صفحة الكون، فعمليًا للحياة واقع واحد تعيشه وتحياه، هو واقع الانفعال السلبي، وهو واقع التأثر بنوع الإرادة والفعل الإنساني في صفحة الكون، والتي كانت في غالب الأحيان معاندة لقانون الأسباب المعدة للحياة.

 المخرج المنشود:

والذي نعتقده جازمين، ونؤمن به مطمئنين، أن معاناة الحرث والنسل، والضيق الذي يعانيه البشر، والمآسي المتلاحقة المتعاقبة التي يدور رحاها على آمال الأنفس المعذّبة، وأن الفتن التي تعصف بنواحي الأرض حروبًا ومجاعات، بل ثوران السماء والأرض من براكين وزلازل وطوفان، وظلمٍ متراكمٍ وعدلٍ مفقودٍ، وغيرِ ذلك من ألوان الطغيان ومظاهر الفساد، كل ذلك ليس قَدَرًا مقدورًا، ولا واقعًا لا مخرج منه أو محيد عنه، بل ليس هو الطبع الأولي للحياة ولا قدرُها الثابتُ كذلك.

والذي نراه سببًا خالصًا وعلّة تامة لجميع ما تضج به الأرض من طغيان وفساد، وإفساد وانحراف، والتواء وظلم، وتكدّر وضيق، وضنك وضياع، وهلاك وضلال، وفتن وقتل، ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، والخوف المنتشر في بقاع الأرض، واختلال دورة الحياة في ناموسها التكويني، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}([8])، واختلال موازين الاجتماع المدني بتقديم السافل وتأخير العالي، وإعطاء الفاجر وحرمان البارّ، وغير ذلك من ألوان الطغيان والفساد، كل ذلك يرجع إلى سبب واحد وعلّة واحدة، وهي بوضوح الكلمة وبساطة التعبير، أن البشر دخلوا الحياة من غير بابها الصحيح، وممرّها الصريح، وأخذوا يتردّدون بين محطّاتها من غير هدى أو كتاب منير.

فقد دخلوا عالمًا شائكًا ملتبسًا متشابهًا، يتيه في أنفاقه وسرادقاته كل من لا دليل معه يهديه إلى حقائق مشاهداته، ويرقّي في مداركه إلى ما غاب عن حسِّه، ويربط له بين الغيب والشهادة، ويعرِّفه من أين جاء إلى هذه الحياة؟ ولماذا جاء إليها؟ وما هي وظيفته في مهلتها؟ وإلى أين المصير بعد هذه الحياة؟

أو فقل بتعبير آخر: من يُخلِّق في داخل الإنسان الوعي والشعور، ويرقّي له في أطواره وأحواله النفسية، والفكرية، والروحية، والعقلية، ما يجعل منه إنسانًا عارفًا بحقائق مشاهداته، ومعايناته، وما له به من صلة في عوالم الكون والوجود، ومن يُفرِد له بين متشابهات الأشياء، ويوضح له المبهمات، ويفسّر له المعضلات، ويهديه إلى كل حقّ وحقيقة.

فإن حاجة البشر إلى هذا الدليل عند الدخول في عوالم هذه الحياة بما فيها من مطاوي وخدَع وبما فيها من وجوه متشابهة، ودواعٍ صوارفٍ عن جهة الحق والصلاح.

إن الحاجة إلى هذا الهادي والدليل والمعرِّف والناظم والسايس والمعلّم لتستقيم الحياة وتتوفّر على علّة صلاحها، وتمامية الحكمة من إنشائها وابتنائها.

 إن الحاجة إلى الدليل هذا، والمعرِّف والسايس، هي أعظم من حاجة الشيء إلى ما يكون به الشيء شيئًا، وما يكون به الموجود موجودًا، ليس بمعنى دخوله في قوام الشيء وما له من كينونة وحقيقة، بل بمعنى الحاجة إلى الدليل والهادي لإغناء الحياة فوق ما نعقله من مفهوم حاجة الذات للذاتيات([9])، فضلاً عن العوارض والطوارئ والأحوال والشؤون التي تتردّد فيها الأشياء، وتتنقّل في منازلها هبوطًا وانحدارًا ورقيًّا وارتفاعًا.

ولا مغالاة في هذا المذهب فإنه عين الحقّ وغاية الغاية في الرشد، وذلك ببيان ما يترتب على وجود الإمام (الهادي والدليل) من أثر وغاية، ولطف وعناية، ورحمة وآية، في نظام الحكمة من الخلق والإيجاد في المبتدأ والمعاد.

فقد اعتبر الكلاميّون أن الإمامة لطف، واللطف واجب على الله تعالى، يدرك العقل ذلك انسجامًا مع كماله - عزّ شأنه، وتعالى مجده -، فلا بدّ من نصب الإمام وجعل الحجّة، وإقامة الدليل والهادي بعد كون الآدميين لهم الاستعداد الفطري للترقّي في مدارج الكمال، والبلوغ إلى أرقى السّنام، ومحاذاة شطر الواحد القهار في اتحاد الإرادة بعد إخلاص الطاعة، وهذا ما لا يكفي له الاستعداد الفطري، فلا بد من مؤيد سماوي يفتح مغاليق أبواب الفطرة، وينمِّي في كل ذات ما بها من قدرة، يرقّي القابل إلى طور الفاعل، والمستعد إلى غاية ما له من مدٍّ وحدّ.

يتبع=

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*  مبلّغ ديني ومدرّس في الحوزة العلمية .

[1] - إبراهيم آية 34.

[2] - الرحمن من الآية 3 إلى الآية 7.

[3] - الرحمن من الآية 9 إلى الآية 12.

[4] - الرحمن آية 9.

[5] - الرحمن آية 7.

[6] - الأعراف آية 96.

[7] - إبراهيم آية 28.

[8] - الروم آية 41.

[9] - لا أقل من القول بالشرط لأجل الغاية فقد خلق الله الإنسان والجن لأجل العبادة وهي غير حاصلة إلا به مع بقاء الاختيار.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية