مقدمة في معنى القصر في الصلاة:
الصلوات اليومية المفروضة في الشريعة الإسلامية خمس صلوات،
والفرض الأولي في كل منها ركعتان، وقد زاد النبي (صلى الله
عليه وآله) للمقيم ركعتين في الظهرين والعشاء الآخرة، وزاد
ركعة في المغرب، وبقيت الصبح على ركعتين.
وأما في السفر فقد بقيت المغرب والصبح على حالهما.
وعلى هذا، فالمقصود بالتقصير الوارد في الكتاب والسنّة، هو
إسقاط الركعتين الأخيرتين من الرباعيات، دون المغرب
والفجر.
فإطلاق القصر على صلاة المسافر: يراد به الاقتصار على
الفرض الأولي، لا التقليل ولا النقص من الصلاة.
وقد دلّت على ذلك النصوص الكثيرة،
فمن تلك الروايات صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: (عشر ركعات: ركعتان من الظهر وركعتان من العصر،
وركعتا الصبح، وركعتا المغرب، وركعتا العشاء الآخرة، لا
يجوز الوهم فيهن، مَنْ وَهَم في شيء منهنّ استقبل الصلاة
استقبالا، وهي الصلاة التي فرضها الله عز وجل على المؤمنين
في القرآن، وفوّض إلى محمد (صلى الله عليه وآله)، فزاد
النبي في الصلاة سبع ركعات، وهي سنّة ليس فيهنّ قرآن، إنما
هو تسبيح وتهليل وتكبير ودعاء، والوهم إنما يكون فيهنّ،
فزاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صلاة المقيم غير
المسافر ركعتين في الظهر والعصر والعشاء الآخرة، وركعة في
المغرب للمقيم والمسافر)([1]).
ولا يخفى أن المراد من الوهم في الرواية هو الشك، والمقصود
من ذلك أن الشك في الركعتين الأوليين مبطل للصلاة.
ثم إن القصر المعتبر في السفر له أحكام، ومن جملتها اعتبار
حدّ الترخص ذهابًا وإيابًا.
ولأجل معرفة دخالة حدّ الترخص في هذا الحكم، يقع الكلام في
موضعين:
الأول: في أحكام المسافر الذي يشرع في السفر عند وصوله إلى
حد الترخص.
الثاني: في أحكامه عند الرجوع من سفره إلى بلده ووصوله إلى
حد الترخص.
الموضع الأول: اعتبار حد الترخص في ترتيب أحكام السفر عند
الشروع في السفر:
المشهور شهرة قطعية أن المسافر يقصّر ويفطر إذا وصل إلى
حدّ معين، وهو حدّ الترخص، وأن مطلق الخروج والتحرك ليس
موجبًا للقصر والإفطار، وادعي على ذلك الإجماع في كلمات
غير واحد، وأنه مقطوع به بين الفقهاء.
ونسب الخلاف إلى علي بن بابويه والد الشيخ الصدوق، وأنه
يقصّر من حين الخروج.
والروايات فيما ذكره المشهور متظافرة، وليس بأزاء تلك
الروايات إلا مرسلتان:
إحداهما: مرسلة حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (في
الرجل يخرج مسافرًا، قال: يقصّر إذا خرج من البيوت)([2]).
الثانية: مرسلة الصدوق، قال: (روي عن أبي عبد الله (عليه
السلام) أنه قال: إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود
إليه)([3]).
ولا بد أن يكون الصدوق رحمه الله قد وجد هذه الرواية في
كتابٍ ما، فذكرها في الفقيه، ولعل والده أيضًا قد ظفر بها
واستند إليها، إذ من البعيد أنه قد استند إلى مرسلة ولده.
كما أن المنسوب إليه أنه يرى جواز الإفطار والتقصير من حين
الخروج من المنزل وإن لم يخرج بعد من البلد، ويمكن أن يكون
المستند هو رواية علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه
السلام): (في الرجل يسافر في شهر رمضان، أيفطر في منزله؟
قال: إذا حدّث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من
منزله.. الخ)([4]).
وهذا الحكم تدل عليه مرسلة الصدوق وروايته إلى ابن يقطين،
ولكن الأولى مرسلة، وكلتاهما مقطوعتا البطلان بقطع النظر
عن السند، بل لعله هو لا يقول بذلك لعدم ثبوت النسبة إليه،
وذلك لأن الإفطار والقصر من أحكام المسافر، ومن لم يخرج من
البلد لم يتلبس بالسفر بعدُ، ولم يتصف بكونه مسافرًا.
نعم لو أريد القصر والإفطار من حين الخروج من البلد، فهذا
ممكن في نفسه لأنه يصدق عليه المسافر وإن لم يبلغ حدّ
الترخص، وتدل عليه مرسلة حماد التي عبّرت (إذا خرج من
البيوت)، إلا أنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها في قبال
ما دلّ من الروايات الصحيحة على اعتبار حدّ الترخص، فإما
أن تلغى لإرسالها أو لموافقتها لبعض العامة، أو تقيّد
بالحد المذكور في الروايات الصحيحة.
فما هو هذا الحد؟
المعروف والمشهور بين القدماء، بل قيل بين القدماء
والمتأخرين: أنه عبارة عن أحد أمرين: عدم سماع الأذان،
أو خفاء الجدران؟
أي الاستتار عن البيوت بحيث لا يميّز بعضها عن بعض وإن رأى
شبحًا.
ونسب إلى الصدوق اعتبار خفاء الجدران فقط، والى المفيد
وجماعة: اعتبار خفاء الأذان فقط.
فالأقوال أربعة، بالإضافة إلى ما عرفت من قول ابن بابويه.
ولا يخفى أن عنوان (خفاء الجدران) لم يرد بهذا العنوان في
شيء من الروايات، وإنما هو في كلمات الفقهاء، حيث إن
المذكور في الروايات هو التواري عن البيوت أي تواري
المسافر عن أهل البيوت، بحيث لا يراهم،
ومعرفة هذا الأمر لا يتيسر للمسافر، ولذلك عبّر الفقهاء
بلازم هذا الأمر وهو خفاء الجدران، حيث إن المسافر إذا نظر
إلى جدران البيوت وخفيت عليه يستكشف بذلك أن أهل البيوت لا
يرونه، فجعلوا خفاء الجدران كاشفًا ومعبّرًا عن العلامة
لحد الترخص.
ومن الروايات الدالة على ذلك: صحيحة محمد بن مسلم قال:
(قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): الرجل يريد السفر
"فيخرج" متى يقصّر؟ قال: إذا توارى من البيوت..الحديث)([5]).
ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان قال: (سألته عن التقصير:
قال: إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان، فأتم، وإذا
كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر، وإذا قدمت من
سفرك فمثل ذلك)([6]).
إلى غير ذلك من الروايات التي دلت على هذا الحكم، مفهومًا
ومنطوقًا.
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- الوسائل ب13 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها
ح12.
[2]
- الوسائل ب6 من أبواب صلاة المسافر ح9.
[3]
- الوسائل ب 7 من أبواب صلاة المسافر ح5.
[4]
- الوسائل ب5 من أبواب من يصح منه الصوم ح10.
[5]
- الوسائل ب6 من أبواب صلاة المسافر ح1.
|