العدد الثالث / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات هذا العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = حدّ الترخض

 

دعوى تعارض هذه الروايات والجمع بينها:

وقد أدرجوا هذا الفرع في باب الشرطيتين المتعارضتين، في مسألة ما إذا تعدّد الشرط واتحد الجزاء حيث يقع التعارض بين القضيتين لا بمنطوقهما، إذ لا مانع من ثبوت القصر في الموردين، بل يقع التعارض بين مفهوم إحدى القضيتين ومنطوق الأخرى، بسبب الانحصار المستفاد من القضية الشرطية حيث إن مفهوم إحداهما أنه إذا لم يخف الأذان فلا تقصر وإن خفيت الجدران، فيعارض منطوق الأخرى، وكذلك العكس.

وقد قالوا هناك بأن مقتضى القاعدة هو تقيّد أحد المنطوقين بالآخر، وتكون النتيجة الجمع بينهما، ولكن هذا لا وجه له بعد أن لم يكن بين المنطوقين تعارض، فلا موجب لرفع اليد عن المنطوق.

كما قالوا: بأنا نقيد إطلاق كل من المفهومين بمنطوق الآخر وتكون النتيجة هي التقييد بـ(أو) والتخيير بينهما، لا الجمع، فيكون كل منهما باستقلاله حدًّا للقصر.

ولكن هذا يتوقف على أن يكون الشرطان في القضية هما موضوع الحكم، وأما إذا كان الشرط شيئًا آخر، والمذكور في القضية بيانًا للحكم ومعرّفًا له، فلا يتم التقييد المذكور لاحتمال كونهما كاشفين عن موضوع واحد، فلا يكون هناك تنافٍ بين الشرطين.

وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الخفاء معرّف للحدّ الواقعي الذي علّق عليه الحكم، لأن خفاء الأذان ليس موضوعًا جزمًا، إذ قد يفرض بلدٌ لا أذان فيه، أو بلد كبير لا يسمع الأذان في بعض أطرافه فضلاً عما بعده، أو أن المسافر أصم لا يسمع، وكذلك بالنسبة لخفاء الجدران، إذ قد يفرض الخروج بالليل، بحيث تخفى الجدران أول الخروج، أو مسافر أعمى، أو غير ذلك من الفروض.

فليس الخفاء في الأذان ولا في الجدران موضوعًا، بل موضوع الحكم مقدار معين، وتلبّس بالبعد المعين يكشف عنه الخفاء، ويدل على ذلك صريحًا بعض الروايات الدالة على أن الحدّ مكان مخصوص يكشف عنه خفاء الأذان والبيوت، كما في رواية إسحاق بن عمار (أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه!)([1])، حيث دلت على أن العبرة بالموضع المعيّن، وإن كان في سند الرواية مناقشة.

وبناء على هذا فلا يجري الكلام المتقدم من تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، لتكون العبرة بأحدهما، إذ ليس للشيء حدّان، إلا إذا فرض تصادقهما على شيء واحد، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر، والمعلوم بالضرورة اختلافهما في المقام، حيث يخفى الأذان قبل خفاء الجدران دائمًا، خصوصًا وأن الأذان لم يعهد في آخر البلد، فالأذان يخفى قبل الرؤية دائمًا.

وعلى هذا فلا يمكن الالتزام بأن الحدّ أحد الأمرين، إذ مرجعه إلى أن العبرة بالأول، وهو عدم السماع، كما لا يمكن الالتزام بأن الحدّ هو مجموع الأمرين، إذ مرجعه إلى أن العبرة بالأخير وهو خفاء الجدران الذي يتحقق أخيرًا، فلا بد وأن يكونا معرّفين، إذ لو كانا حدّين تقع المعارضة بين الدليلين لتعذّر الجمع بينهما بارتكاب التقييد في المفهوم أو المنطوق بالعطف سواء بالواو أو بأو.

فتكون الروايات مسوقة لبيان المعرّف عن الحدّ الواقعي كما فهمه الفقهاء:

فما هو هذا الحد الذي كشف عنه المعرّفان؟

والروايات مختلفة ومتعارضة، لاختلاف الحدّ باختلاف الكاشف.

فيمكن الجمع بأن يقال: بأن الحد الواقعي هو بلوغ البعد مقدارًا لا يسمع الأذان، كما تضمنته النصوص الكثيرة، إلا أن معرفة ذلك لا تتيسر لكل أحد غالبًا، لندرة السفر في وقت الأذان إلا بنحو الصدفة، خصوصًا في الأزمنة السابقة، مع أنه ليس كل بلد يؤذن فيه ويسمع أذانه بدون مانع من الريح، ونحوه.

وبالجملة، فإنَّ فَهم الحدّ المذكور الذي يعرّف عنه الأذان صعب جدّا على المسافر، فالتعليق على عدم السماع قليل الجدوى، لكونه من التعليق على أمر لا يقع خارجًا إلا نادرًا، ولذا ذكر في صحيح ابن مسلم ضابطًا آخر سهل التناول، ويكشف قطعًا عن حصول خفاء الأذان وهو التواري عن البيوت،، فإن هذا قدر متيقن في حصول البعد اللازم رعايته، لأنه أخص من عدم السماع إذ كلما حصل هو يحصل خفاء الأذان ولا عكس، لأن البعد مع التواري أكثر كما عرفت، فإذا توارت البيوت فقد أحرز خفاء الأذان قطعًا، وتجاوزه، فتندفع المعارضة بين صحيحة ابن مسلم وبين تلك الأخبار التي جُعل المدار فيها على عدم سماع الأذان.

علاج التعارض على فرض تعذر الجمع:

فإذا أمكن هذا الجمع فهو، وإلا فالروايات متعارضة، ولا شك في تقديم أخبار خفاء الأذان، لكثرتها وشهرتها، ومعروفية التحديد بخفاء الأذان عند أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وارتكازه في أذهانهم بحيث كان مفروغًا عنه عندهم.

ومع الإغماض عن ذلك، فروايات الأذان مقدّمة لموافقتها لعمومات وجوب القصر على المسافر، لأن مقتضاها مع هذه الروايات هو الاقتصار في مقام التخصيص على القدر المتيقن، فإن مقتضى هذه العمومات هو وجوب القصر على المسافر من حين شروعه في السفر، خرج عنه حال سماعه للأذان، فإنه لا يقصّر، وهذا هو المقدار المتيقن، ولم يثبت التخصيص في أزيد من ذلك وهو صورة عدم سماعه للأذان وإن لم تتوار البيوت بعدُ، فإنه إذا لم يسمع يقصّر بمقتضى عمومات القصر وإن بقيت البيوت ظاهرة.

ولو لم يرد دليل على اعتبار حدّ الترخص لقلنا بوجوب القصر من حين الخروج لأنه مسافر من حين شروعه في السفر، لكون السفر كما عرفت بمعنى البروز والظهور، ولكن خفاء الأذان مخصّص، فإذا عارض هذا المخصّص دليل آخر أعم، وهو ما دلّ على اعتبار المواراة التي تتحقق دائمًا بعد خفاء الأذان، يقتصر في التخصيص على المقدار المتيقن وهو خفاء الأذان، للشك في وجوب التمام بعد خفاء الأذان، فيرجع لعمومات القصر لأنه مسافر، ولا تشمله عمومات التمام على كل مكلف بعد خروجه لصدق عنوان المسافر عليه، فتكون أخبار الأذان موافقة للسنة القطعية وهي عمومات القصر.

والنتيجة: أن روايات خفاء الأذان في التعريف عن حدّ الترخّص هي المقدَّمة على جميع التقادير، فالعبرة بخفاء الأذان، والله العالم.

الموضع الثاني: في ثبوت حد الترخص في الإياب إلى البلد وعدمه:

المعروف والمشهور اعتبار حدّ الترخص في الإياب كالذهاب، وخالف فيه جماعة منهم فلم يعتبروه في الرجوع مثل ابن بابويه، ووافقه السيد المرتضى وصاحب الحدائق، وذهب جماعة كصاحب المدارك والذخيرة إلى التخيير بين القصر والتمام لدى وصوله في رجوعه إلى حدّ الترخص إلى أن يدخل منزله.

والمحقق في الشرائع بعدما جعل حدّ الترخص في الذهاب أحد الأمرين من التواري والخفاء، جعله في الإياب مختصًا بخفاء الأذان.

فيقع الكلام:

(تارة) في اعتبار حد الترخص في الإياب.

(وأخرى): في حدّه وميزانه.

أما اعتباره: فلا ينبغي التأمل فيه كالذهاب، للتصريح به في ذيل صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة، أعني قوله (عليه السلام): (وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك) ([2]).

وهو أيضًا مقتضى إطلاق صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): ( قال: إذا سمع الأذان أتم المسافر)([3])، فإنه شامل للإياب كالذهاب.

ومقتضى هاتين الروايتين المؤيدتين بغيرهما عدم الفرق بين الذهاب والإياب، وأن المسافر إذا وصل إلى حد الترخص فهو ليس بمسافر لا حكمًا ولا موضوعًا، سواء كان ذاهبًا أو راجعًا.

ولكن صاحب الحدائق أصرّ على عدم الاعتبار في الإياب، استنادًا إلى جملة من النصوص الناطقة بأن المسافر يقصّر حتى (يدخل بيته) أو (منزله) أو (أهله)، على اختلاف ألسنتها:

مثل: صحيح العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قال: لا يزال المسافر مقصّرًا حتى يدخل بيته)([4]).

وصحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتمّوا، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصّروا)([5]).

وقد جمع الشيخ بين هذه الروايات وبين ما تقدّم: بأن المراد بدخول الأهل هو الوصول إلى محل رؤية الجدران وسماع الأذان، باعتبار أن من وصل إلى هذا الموضع يخرج من حكم المسافر، فيكون بمنزلة من يصل إلى منزله.

واستجوده في الوسائل لوضوح الدلالة هناك وعدم التصريح هنا بما ينافيها، فذاك صريح وهذا ظاهر.

واستبعد هذا الحمل، الشهيد، وصاحب الحدائق، لأنه مخالف لما هو المصرّح به في بعض هذه النصوص من وجوب التقصير حتى بعد دخول البلد، وأنه لا يُتم حتى يدخل أهله ومنزله، كما في صحيحة إسحاق بن عمّار حيث قال فيها: (سألته عن الرجل يكون مسافرًا ثم يدخل ويقدم ويدخل بيوت الكوفة، أيتم الصلاة أم يكون مقصرًا حتى يدخل أهله؟ قال: بل يكون مقصّرًا حتى يدخل أهله) ([6]).

وهذا الاستبعاد في محلّه، لعدم إمكان الحمل المذكور بعد التصريح بأنه دخل الكوفة وحكم الإمام بالتقصير حتى يدخل أهله.

فلا بد من النظر في هذه الروايات، فنقول:

هذه الروايات معارضة لصحيحة ابن سنان المتقدمة التي صرّح فيها باعتبار حدّ الترخص في الذهاب والإياب.

وهذه الصحيحة، مقدّمة على تلك الروايات المعتبرة بالرغم من كثرتها، وذلك لعدّة أمور:

منها: أن الروايات المذكورة مقطوعة البطلان في نفسها بقطع النظر عن المعارضة، لأن مقتضاها وجوب القصر على غير المسافر، حيث إن الذي يدخل بلده يخرج عن عنوان المسافر، ومعنى ذلك أن المسافر إذا دخل بلده وبقي أيامًا، لا يدخل بيته فهو مسافر ويقصّر.

وهذا في نفسه غير محتمل، لاختصاص القصر بالمسافر، وليس الذي يدخل بلده من (المسافر)، فهذه الروايات مقطوعة البطلان من هذه الجهة، ولا بدّ من حملها على التقية، لموافقتها للعامّة كما ذكر في الوسائل.

ومنها: أنه مع الغض عن ذلك، فالترجيح مع صحيحة ابن سنان لموافقتها للسنّة القطعية، وهي العمومات الدالة على وجوب التمام على كل مكلّف، خرجنا عنها كقدر متيقن في المسافر، وهذه الروايات مخالفة لها، فتطرح، ونلتزم باعتبار حدّ الترخص في الإياب كالذهاب.

وقد تعارض صحيحة ابن سنان برواية البرقي في المحاسن عن حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) (قال: المسافر يقصّر حتى يدخل المصر)([7]).

لأنها حكمت للمسافر بالقصر حتى يدخل المِصر، لا حدّ الترخص، فهي موافقة لعمومات القصر على المسافر حتى يدخل بلده، فإنه يخرج عن عنوان المسافر، ولم يفرض فيها دخول المسافر.

ويرد عليها:

أولاً: أنها ضعيفة السند بالإرسال.

وثانيًا: أنه مع الغض عن سندها، يمكن حملها على دخول حدّ الترخص، باعتبار أن من وصل إلى هذا الحدّ منه دخل المصر، وصحيحة ابن سنان صريحة في حد الترخص، وهذه ظاهرة في عدمه.

ولكن يمكن حمل (المصر) على ما يشمل حد الترخص، فيجمع بذلك بين الروايتين.

وعليه: فحد الترخص لا بد من اعتباره في الإياب، وليس ما يدل على عدم اعتباره.

انتهى المقال

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - الوسائل ب3 من أبواب صلاة المسافر ح11- 12.

[2] - الباب السابق نفسه ح3.

[3] - الوسائل ب6 من أبواب صلاة المسافر ح7.

 [4]- الباب السابق ح4.

 [5]- الباب السابق ح1.

[6] - الباب السابق ح3.

[7] - الباب السابق ح8.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية