العدد الرابع / 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الاستطاعة البذلية

الشيخ حسن رميتي*

وقع الكلام في الاستطاعة البذلية، في أنه هل يستقر وجوب الحج على المكلف بمجرد البذل من غير قبول أو لا؟

ادَّعي الإجماع على وجوب الحج بالبذل، وفي المستند للنراقي (رحمه الله): "لو بذل له الزاد والراحلة ومؤونة عياله ذاهبًا وعائدًا، صار مستطيعًا مع استكمال باقي الشرائط، إجماعًا محققًا ومحكيًا عن صريح الخلاف والغنية وظاهر المنتهى والتذكرة..."([1])، ونحوه في كشف اللثام والجواهر.

ويدل عليه أيضًا النصوص الكثيرة:

منها: صحيحة ابن مسلم ورواية أبي بصير([2]).

ومنها: حسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: (قال: قلت له: فإن عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أهو ممن يستطيع إليه سبيلاً؟ قال: نعم، ما شأنه يستحيي؟ ولو يحج على حمار أجدع أبتر؟! فإن كان يستطيع أن يمشي بعضًا ويركب بعضَا فليحج)([3]).

ومنها: صحيح معاوية بن عمار: (قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل لم يكن له مال فحجَّ به رجل من إخوانه، أيجزيه ذلك عن حجة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال: بل هي حجة تامة)([4]).

وقد علَّق السيد الحكيم (رحمه الله) في المستمسك على هذا الصحيح بقوله: "إنه وإن دلَّ على الإجزاء لا يدل على الوجوب بالبذل، والإجزاء عن حجة الإسلام أعمّ من الوجوب"([5]).

ولكن هذا في غير محله، لأن الإجزاء يكشف عن الوجوب إذ لو لم يكن واجبًا لما أجزأ كما في حجّ المتسكّع، فإنه لا يجزي عن حجة الإسلام.

ومنها: صحيحه الآخر في حديث: قال: فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى فلم يفعل، فإنه لا يسعه إلا أن يخرج ولو على حمار أجدع أبتر)([6]).

ومنها: صحيح أبي بصير: ( قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل كان له مال فذهب، ثم عُرض عليه الحج فاستحيى؟ فقال: من عُرض عليه الحج فاستحيى -ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب- فهو ممن يستطيع الحج([7]).

وكذا غيرها من الروايات الكثيرة.

إن قلت: إن كثيرًا من هذه الأخبار المتقدّمة لا يمكن الالتزام بمضمونها، إذ تدل على وجوب الحجّ بالبذل وإن كان فيه مشقة عظيمة ومهانة لا تُتحمل.

قلت: إن وجوب الحج مع المشقّة لأجل عدم قبوله البذل، فإنه يستقرّ عليه، وعليه الحج بعد ذلك ولو متسكّعًا، وليس المراد أنه يجب عليه الحج بعد العرض ولو على حمار أجدع أبتر، بحيث يكون فيه مهانة لنفسه. ويحتمل أيضًا أنه إذا بذل له حمار أجدع أبتر فاستحيى من الركوب عليه فليمشِ ويركبه إذا اضطر إلى ركوبه، ونحو ذلك من المحامل التي لا تنافي وجوب الحج معها.

ومما يدل على وجوب الحج بالبذل: الآية الشريفة {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}([8])، فإنّ المراد من الاستطاعة فيها القدرة على الحج والتمكّن منه بأي وسيلة، ومنها البذل.

ولكن الأخبار التي تعرّضت للآية الشريفة فَسَّرت الاستطاعة المعتبرة في الحج بالاستطاعة الخاصة، وهي أن يكون له زاد وراحلة، فإذا لم يكن مالكًا لهما فلا يجب عليه الحج، واستفيدت الملكية من كلمة (الَّلام)، فإنها تدل على المُلك، وعليه فالآية الشريفة لا تشمل بذل الزاد والراحلة لأنه غير مالك لهما.

وفيه: أن بعض الأخبار المفسِّرة لها وإن اشتملت على ما ذكر، إلا أن بعض الأخبار الأخر المفسِّرة لها اشتملت على لفظ (يجد ما يحج به) أو (عنده ما يحج به)، وهذا يشمل البذل كما لا يخفى، وهذه الأخبار ليست متنافية كي يُجمع بينها، وإنما يكون التنافي بينها إذا كان بعضها إثباتًا والآخر نفيًا، كما في (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسَّاق منهم)، أو كان كل منهما مثبتًا مع وحدة الحكم كما في (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة)، وأما إذا لم يكن الحكم واحدًا فلا تنافي كما في (أكرم العلماء) و(أكرم العالم العادل)، فلا موجب لحمل المطلق على المقيد، ومقامنا من هذا القبيل، فإن الحج قد يجب مع الاستطاعة الملكية، وقد يجب مع الاستطاعة البذلية.

والخلاصة: أن الحج يجب مع البذل بالإجماع والكتاب والسّنة، والأخبار التي تقدمت دلّت على الوجوب مطلقًا سواء أكان البذل على وجه التمليك أم لا، وسواء أكان الباذل موثوقًا به أم لا، كما لا فرق في البذل بين كونه واجبًا بنذر وشبهه أم لا، ولا بين بذل عين الزاد والراحلة وبين بذل أثمانهما.

اعتبار الوثوق بالوفاء بالبذل أو عدم الظن بالكذب :

هذا، واعتبر الشهيد في الدروس التمليك أو الوثوق، وظاهر عبارته الثانية عدم اشتراط ذلك بل يعتبر القبول. قال رحمه الله: "ويكفي البذل في الوجوب مع التمليك أو الوثوق به، وهل يستقرّ الوجوب بمجرد البذل من غير قبول؟ إشكال من ظاهر النقل وعدم وجوب تحصيل الشرط، ولو حجّ كذلك أو في نفقة غيره أجزأ، بخلاف ما لو تسكّع فإنه لا يجزئ عندنا، وفيه دلالة على أن الإجزاء فرع الوجوب، فيقوى الوجوب بمجرد البذل لتحقّق الإجزاء، إلا أن يقال: الوجوب هنا بقبول البذل"([9]).

ولا يخفى أن كلاً منهما مدفوع بإطلاق الأخبار، ولا دليل على ما ذكره (رحمه الله)، وعليه فيستقرّ عليه الحج ولو لم يقبل، لأن الأخبار مطلقة من هذه الجهة.

وقد يقال: إن القبول اكتساب ولا يجب عليه لأنه شرط الوجوب فلا يجب تحصيله.

وفيه: ما ذكرناه من أن ظاهر الأخبار تحقّق وجوب الحج بمجرد البذل، فإذا تحقّق الوجوب وجب القبول، لأنه حينئذ شرط الواجب لا الوجوب ومن المعلوم أن شروط الواجب يجب تحصيلها.

وفي المدارك:" نعم لا يبعد اعتبار الوثوق بالباذل، لما في التكليف بالحج بمجرد البذل مع عدم الوثوق بالباذل من التعرّض للخطر على النفس، المستلزم للحرج العظيم والمشقّة الزائدة، فكان منفيًا"([10]).

وفي الجواهر: "نعم، قد يقال باعتبار الطمأنينة بالوفاء أو بعدم الظن بالكذب حذرًا من الضرر والخطر عليه، وللشك في شمول أدلة الوجوب له إن لم تكن ظاهرة في خلافه، بل لعل ذلك كذلك وإن وجب على الباذل.."([11]).

وفي المستند للنراقي (رحمه الله): "هو الأصح، لعدم صدق الاستطاعة بدونه عرفا ولا لغة"([12]).

وفي الحدائق: "نعم لا يبعد - كما ذكر في المدارك - اعتبار الوثوق بالباذل"([13])، وفي الرياض: "ولا دليل على شيء من هذه عدا الأخير -أي ما ذكره صاحب المدارك - فيتوجّه دفعًا للعسر والحرج اللازمين لعدم الوثوق المنفيين إجماعًا كتابًا وسنة وفتوى وبها يقيّد إطلاق النصوص المتقدمة.."([14]).

وفيه: أنه إذا لزم العسر والحرج مع عدم الوثوق، فينتفي الوجوب حينئذ، إلا أن الكلام في الصغرى وفي ثبوت العسر والحرج مع عدم الوثوق، وحال الحج مع البذل كالحج بالاستطاعة المالية، فكما أنه إذا احتمل سرقة المال أو زوال الاستطاعة بمنع العدوّ له وما شابه ذلك فلا يسقط الوجوب، بل يستصحب بقاء الاستطاعة فكذلك هنا، فإذا احتمل عدم الاستمرار بالبذل فيستصحب بقاءه ولا يسقط الوجوب، فالوثوق بالبقاء في كل منهما غير معتبر، نعم مع الوثوق بالعدم يسقط الوجوب كما في الاستطاعة الملكية، فإذا كان واثقًا بوجود مانع يمنعه من الذهاب فلا يجب عليه الحج، وكذا سائر الموانع.

وبالجملة: فلا فرق بين الاستطاعة البذلية والملكية من هذه الجهة، والسيد الحكيم (رحمه الله) جعل محل النزاع في الوجوب الظاهري، وأما الوجوب الواقعي بتحقّق البذل واقعًا فلا ينبغي التأمل في عدم دخل الوثوق ولا العلم به، والنزاع إنما هو في الوجوب الظاهري بتحقّق البذل ظاهرًا.

وفيه: أن كلام الأعلام إنما هو في الوجوب الظاهري كما يظهر من كلماتهم، فالوجوب الواقعي خارج عن محطّ الأنظار، ومهما يكن فما ذكره (رحمه الله) جيد.

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

* مؤسس حوزة الإمام الرضا(ع)، وأستاذ البحث الخارج.

[1] - مستند الشيعة، المحقق النراقي، مؤسسة آل البيت، قم، ط1:   11/ 48.

[2] - وسائل الشيعة ب 8 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، ح1، وب 11 منه ح2.

[3] - المصدر السابق ب 10، ح 5.

[4] - المصدر السابق ب10 ، ح 2.

[5] - مستمسك العروة، السيد محسن الحكيم، مكتبة المرعشي، قم، 10/125.

[6] - المصدر السابق ب10 ، ح3.

[7] - المصدر السابق ب 10، ح8.

[8] - آل عمران من الآية 97

[9] - الدروس، الشهيد الأول، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1: 1/310

[10] - مدارك الأحكام، السيد محمد العاملي، مؤسسة آل البيت، قم، ط1:  7/46.

[11] - جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، دار الكتب الإسلامية، قم، ط2: 17/266.

[12] - مستند الشيعة، المحقق النراقي، مؤسسة آل البيت، قم، ط1 :11/49.

[13] - الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، جماعة المدرسين، قم : 14/101.

[14] - رياض المسائل (ط.ق)، السيد علي الطباطبائي، حجرية: 1/339.

[15] - تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، مؤسسة آل البيت، قم، ط1:  7/61.

[16] - نفس المصدر.

[17] - نفس المصدر.

[18] - الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، جماعة المدرسين، قم: 14/103.

[19] - مسالك الافهام - الشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الإسلامية، ط1: 2/133.

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية