العدد الرابع/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال =  الاستطاعة البذلية

في اعتبار التمليك في الوجوب:

ثم إن الشهيد في الدروس نقل عن ابن إدريس اشتراط التمليك في الوجوب، وجنح إليه الفاضل.

وعن ابن إدريس: "أن من يعرض عليه بعض إخوانه ما يحتاج إليه من مؤونة الطريق يجب عليه الحج بشرط أن يملّكه ما يبذل له ويعرض عليه، لا وعدًا بالقول دون الفعل" هذا ما نقله العلامة (رحمه) عنه في التذكرة([1]).

وفيه: أنه لا دليل عليه وإطلاق النصوص يدفعه، أضف إلى ذلك أن البذل مع عدم التمليك ربما كان معروفًا أكثر من البذل مع التمليك.

وقال العلامة رحمه الله: "إن التحقيق أن البحث هنا في أمرين:

الأول: - هل يجب على الباذل بالبذل الشيء المبذول أم لا؟ فإن قلنا بالوجوب أمكن وجوب الحج على المبذول له، لكن في إيجاب المبذول بالبذل إشكال، أقربه عدم الوجوب. وان قلنا بعدم وجوبه ففي إيجاب الحج إشكال أقربه العدم، لما فيه من تعليق الواجب بغير الواجب" ([2])، وهو ظاهر في عدم الوجوب بمجرد البذل.

وفيه: أولاً: أنه مخالف لإطلاق الأخبار.

وثانيًا: أن التعليق يمتنع إذا تجرّد وجوب الحج عن شرط استمرار البذل ولم نقل بسقوط الوجوب إذا رجع الباذل عن بذله، وأما إذا قلنا إن وجوب الحج مشروط باستمرار البذل، فلا يرد الإشكال حينئذ، وحاله كوجوب الحج مع الاستطاعة الملكية، فإن الوجوب مراعىً ببقائها إلى آخر الأعمال فإذا زالت انتفى الوجوب، فكذا الحال في الاستطاعة البذلية.

ثم قال العلامة رحمه الله: "الثاني: هل بين بذل المال وبذل الزاد والراحلة ومؤنته ومؤنة عياله فرق أم لا؟ الأقرب عدم الفرق لعدم جريان العادة بالمسامحة في بذل الزاد والراحلة والمؤن بغير منّة كالمال" ([3]).

وفَهِم صاحب المدارك رحمه الله وكذا الفاضل الهندي من هذا الكلام أنه لا فرق في وجوب الحج بالبذل بين بذل الزاد والراحلة وبين بذل الأثمان، ولكن صاحب الحدائق (رحمه الله) فَهِم العكس من ذلك، قال: "وهو - كما ترى - ظاهر في أن المراد إنما هو عدم الفرق بينهما في أنه لا تحصل الاستطاعة بهما، لأنه ذكر في الفرع الأول - كما نقلناه - عدم وجوب قبول المال إذا بذل له لاشتماله على المنة... إلى آخر ما تقدّم، وهنا قد ألحق به عين الزاد والراحلة لو بذل له وجعل حكمه حكم المال في عدم وجوب قبوله، لاشتماله على المنّة لأنه لم تجر العادة بالمسامحة به. والسيد (رحمه الله) قد توهّم العكس في وجوب القبول في الموضعين وحصول الاستطاعة، وهي غفلة فاحشة. وبالجملة فإن مرجع كلام العلامة هنا إلى موافقة ابن إدريس في أنه لا يكفي مجرد البذل - للعين كان أو للثمن - بل لا بد من التمليك..

والظاهر أن شيخنا الشهيد في الدروس إنما نسب إليه القول بما ذهب إليه ابن إدريس من كلامه هنا وإلا فكلامه في سائر كتبه خال من ذلك"([4]).

أقول: التأمّل في كلام العلامة (رحمه الله) يفضي إلى أن الأقرب إلى الواقع ما فهمه صاحب الحدائق (رحمه الله)، حيث علّل العلامة في الفرع عدم الوجوب لاشتمال القبول على المنّة، وهنا - أي في الأمر الثاني - شبّهه بذلك فلاحظ.

قال الشهيد الثاني (رحمه الله) في المسالك: "نعم، يشترط بذل عين الزاد والراحلة، فلو بذل له أثمانهما لم يجب القبول، وكذا لو نذر لمن يحج وأطلق ثم بذله لمعين أو أوصى بمال لمن يحج ثم بذله كذلك، لأن ذلك يتوقف على القبول، وهو شرط للواجب المشروط، فلا يجب تحصيله"([5]).

ويرد عليه: أن ظاهر الأخبار المتقدّمة صدق العرض والبذل على بذل الأثمان كصدقها على بذل عين الزاد والراحلة، وبه يتحقّق الوجوب فيجب كل ما يتوقف عليه الحج ومنه القبول، لأنه بذلك شرط للواجب وهو فعل الحج لا الوجوب كي يقال لا يجب تحصيله.

وبالجملة: إن إطلاق الروايات ينفي كلّ هذه القيود، فلا يعتبر شيء منها، فبمجرد البذل يجب عليه الحج إلا إذا وثق بالعدم كما تقدم.

بقي الكلام في أمور:

الأمر الأول: لا فرق بين بذل الكل إذا لم يكن عنده شيء وبين بذل البعض إذا كان عنده بعض النفقة لإطلاق الأدلة، فإن العرض كما يصدق على الكل يصدق على البعض إذا كان عنده البعض الآخر، وفي المدارك: "لأنه ببذل الجميع مع عدم تمكّنه من شيء أصلاً يجب عليه، فمع تمكّنه من البعض يكون الوجوب أولى"([6]) وكذا في الجواهر.

الأمر الثاني: أن الظاهر من البذل والعرض هو بذل النفقة في الذهاب والإياب، فلو بذل له للذهاب فقط فلا يجب عليه الحج إذا أراد الرجوع إلى بلده، فالشخص الذي يريد أن يرجع إلى بلده بعد الحج ولا يريد البقاء في مكة إذا بذل له النفقة للذهاب فقط فلا يصدق عليه أنه عُرض عليه الحج.

الأمر الثالث: إذا بذل للشخص نفقة ذهابًا وإيابًا ولم يبذل لعياله إذا لم يكن عندهم ما يكفيهم فهل يجب عليه الحج أم لا؟

أقول: إن نصوص البذل مطلقة من هذه الجهة، فإن مفادها وجوب الحج عليه بعد العرض وإن لم يبذل لعياله، نعم بعد فرض وجوب الإنفاق عليهم يتزاحم مع وجوب الحجّ فيقدّم الأهم منهما، إلا إذا كان معسرًا ولا يستطيع الإنفاق عليهم حتى لو كان في الحضر، ففي هذه الصورة يجب عليه الحج بلا إشكال، ولذا قال في الجواهر: "بل إن لم يقم إجماع على اعتبار بذل مؤونة العيال في الوجوب أمكن منعه في المعسر عنها حضرًا للإطلاق المزبور، وليس المبذول من أملاكه المطلقة له كي يجب عليه إعطاء ما يلزمه منه"([7])، ثم إن ما ذكرناه إنما هو في العيال الواجبي النفقة عليه، وأمّا إذا كانوا عيالاً عليه ولكنهم غير واجبي النفقة فلا تزاحم حينئذ إلا إذا كان ترك الإنفاق حرجيًا عليه فيسقط الوجوب حينئذ.

فرع: في حكم ما لو وهبه الزاد والراحلة، وهنا صورتان:

الأولى: أن يهبه ويشترط في الهبة الحج، كأن يقول له: وهبتك هذا المال للحج أو لتحج به.

الثانية: أن يطلق ولا يقيّدها بالحج.

أما الصورة الأولى:

ففيها قولان. ذهب الشهيد في الدروس إلى عدم وجوب القبول ثم تنظَّر في الفرق من جهة صدق العرض على كل من البذل والهبة للحج، ومن ناحية أخرى بأن القبول نوع من الاكتساب فلا يجب.

وفي الرياض:" ولو قيد بشرط أن تصرفه في الحج فهل هو كالهبة المطلقة فلا يجب بذلك الحج أم كالبذل فيجب؟ وجهان أحوطهما الثاني، وفاقًا لشيخنا الشهيد الثاني خلافًا للشهيد الأول فاختار الأول ولعله الأظهر لأن اشتراط الصرف في الحج لا يُخرجه عن الهبة المحتاجة إلى القبول الملحق لها بالاكتساب الغير الواجب بلا خلاف ودخولها في إطلاق النصوص غير واضح"([8]).

وفي الجواهر عند قول الماتن - ولو وهب له مال لم يجب عليه قبوله - قال: "من غير فرق بين الهبة مطلقًا ولخصوص الحج، وبين هبة نفس الزاد والراحلة وأثمانهما"([9]).

وفي المسالك عند قول الماتن - ولو وُهب له مال لم يجب عليه قبوله- قال: "لأن قبول الهبة نوع من الاكتساب، وهو غير واجب للحج، لأن وجوبه مشروط بوجود الاستطاعة، فلا يجب تحصيل شرطه، بخلاف الواجب المطلق. ومن هنا ظهر الفرق بين البذل والهبة فإن البذل يكفي فيه نفس الإيقاع في حصول القدرة والتمكن فيجب بمجرده" ([10]).

وذكر الشهيد الثاني في الروضة أنه: "إذا وهبه عين الزاد والراحلة وجب القبول"([11])، وذهب جماعة كثيرة من الأعلام إلى وجوب القبول إذا وهبه المال للحج، منهم صاحب الحدائق والنراقي وصاحب المدارك وغيرهم من الأعلام وهو الصحيح، لصدق العرض على كل من البذل والهبة للحج، فالأخبار المتقدمة تشمل الصورتين بإطلاقها، وأما تعليل صاحب المسالك والرياض فقد تقدم دفعه.

وحاصله: أنه بعد العرض يصبح مستطيعًا فيجب القبول لأنه شرط الواجب لا الوجوب، بل حينئذ يجب كل ما يتوقّف عليه الفعل كما عرفت.

هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

وأما الصورة الثانية: وهي الهبة مطلقًا:

فالأكثر على عدم وجوب القبول لأنها لا تدخل في أخبار العرض، والقبول اكتساب ولا يجب تحصيله، لأنه في هذه الصورة شرط الوجوب لا الواجب، وذهب النراقي رحمه الله إلى وجوب الحج في هذه الصورة وقال: "لا فرق في ذلك - أي في الهبة - بين الإطلاق والتقييد، فالحق وجوب الحجّ معه" وما أبعد هذا القول عمّا ذهب إليه صاحب الجواهر (رحمه الله) من عدم وجوب الحج حتى ولو كانت الهبة لخصوص الحج كما عرفت.

وبالجملة: ما ذهب إليه المشهور من عدم وجوب القبول هو الصحيح، لأن القبول نوع من الاكتساب ولا يجب تحصيله لأنه حينئذ شرط للوجوب، ومنه ينقدح عدم وجوب الحج لو بذل له المال ولم يقيّده بالحج، بأن كانت الإباحة مطلقة فلا يجب عليه الحج لعدم دخول هذه الصورة في إطلاقات الأخبار المتقدّمة إذ لا يقال: عُرض عليه الحج.

وإن شئت فقل: إن الاستطاعة إما ملكية أو بذلية، وكل منهما لا ينطبق على موردنا لأنه غير مالك المال ولم يُعرض عليه الحج، فلا يصدق البذل له.

هل يمنع الدين الوجوب بالبذل:

قال في المسالك: "ولا يشترط في الوجوب بالبذل عدم الدين، أو ملك ما يوفيه به، بل يجب الحج وان بقي الدين، نعم لو بذل له ما يكمل به الاستطاعة اشترط في ماله الوفاء بالدين، وكذا لو وهبه مالاً مطلقًا. ولو شرط عليه الحج به فكالمبذول" ([12])، وفي المدارك علّل ذلك بإطلاق النص، وفي كشف اللثام: "واعلم أن الدين لا ينفي الوجوب بالبذل كما ينفيه باتهاب ما لا يفي به مع نفقة الحج والإياب والعيال"([13]).

أقول: السرّ في عدم اشتراط الوجوب بالبذل بعدم الدين هو: أن المبذول له لا يملك المال ملكية مطلقة، بل لا يملكه أصلاً وإنما أبيح له التصرف فيه في الحج، فلا يقال يجب أولاً أداء الدين ثم صرف الباقي في الحج.

ومنه يتّضح ما لو وهبه المال بشرط الحج به، فإنه مقيّد في التصرّف، فليس المال ملكًا له مطلقًا، نعم لو وهبه مطلقًا فهنا يلاحظ أداء الدين أولاً لو كان معجّلاً، حيث إن المال ملك له على الإطلاق وله حرّية التصرف فيه بأي وجه كان.

وأما الاستدلال على عدم مانعية الدين للوجوب بالبذل بإطلاق النص كما عن المدارك وغيره، فربما يقال: إن النص ليس ناظرًا لهذه الجهة، وإنما مورده المساواة بين الاستطاعة الملكية والبذلية وليس متعرّضًا لباقي الشرائط، فتأمّل.

ثم إن المشهور هو عدم وجوب إعادة الحج على المبذول له إذا استطاع بعده للأصل، وصدق الامتثال لانطباق المأمور به على المأتيّ به، فيتحقّق الامتثال والإجزاء، ولصحيح معاوية بن عمار المتقدم([14])، حيث دلّ على الإجزاء عن حجّة الإسلام، ومن المعلوم أن الحج الواجب هو مرّة واحدة في العمر، فلا يقال: إن صحيح ابن عمار دلّ على الإجزاء عن حجة الإسلام ولم يدل على عدم وجوب الإعادة، وذلك لما عرفت من أن الحج الواجب هو مرة واحدة، خلافًا للشيخ (رحمه الله) في الاستبصار فقد أوجب الإعادة بعد اليسار لموثق الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن رجل لم يكن له مال فحج به أناس من أصحابه، أقضى حجة الإسلام؟ قال: نعم، فإن أيسر بعد ذلك فعليه أن يحج، قلت: هل تكون حجته تلك تامة أو ناقصة إذا لم يكن حج من ماله؟ قال: نعم، قضى عنه حجة الإسلام وتكون تامة وليست بناقصة، وإن أيسر فليحج)([15]).

وهذه الرواية لا يوجد فيها ما يخدش في سندها، إلا ما يقال من أنها مرسلة ومشتملة على عدّة من الواقفية كما عن المدارك.

وفيه: أن اشتمالها على عدّة من الواقفية لا يضرّ بعد كونهم ثقات، فإنّ ابن سماعة وأبان بن عثمان الواقعين في السند ثقتان، وأما بالنسبة للإرسال فلا يضرّ في المقام لأن ابن سماعة قال: (عن عدّة من أصحابنا)، ومن البعيد أن لا يكون في العدّة رجل ثقة. فالصحيح أنّ الرواية موثقة.

ونحو هذه الموثقة خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لو أن رجلاً معسرًا أحجّه رجل كانت له حجّة، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحج، وكذلك الناصب إذا عرف فعليه الحج وإن كان قد حج)([16]).

والرواية ضعيفة بابن البطائني، وحمل الشيخ رحمه الله في التهذيب موثق الفضل على الاستحباب.

أقول: مقتضى القاعدة هي حمل الخبرين على الاستحباب للتصريح بالإجزاء في صحيح معاوية ابن عمار المتقدم، ولا سيّما أنّ في الرواية إضافة (الناصب) ومن المعلوم أنّه لا يجب عليه إعادة الحج، فكذا هنا.

واحتمل في الوسائل كون الحج الأول على وجه النيابة عن الغير، وتبعه الفاضل الهندي (رحمه الله) حيث قال: "ويحتمل الحج عن غيره وعدم بذل الاستطاعة، فإنّ الحج به إنما يستلزم استصحابه وإرساله في الحج، وهو أعم، ولا يأبى عنه تسمية حجة الإسلام"([17])ولا يخفى بعده.

وذهب السيد الحكيم (رحمه الله) إلى أن العمدة وهن الخبرين بالإعراض والهجر.

وفيه: أن إعراض المشهور لا يوجب وهن الرواية، إلا أن يقال: إن جميع المتقدّمين أعرضوا عن الروايتين حتى أن الشيخ (رحمه الله) هو آخر المتقدمين ذهب إلى الاستحباب في التهذيب كما عرفت.

وبالجملة: فإن العمدة في المقام الحمل على الاستحباب.

انتهى المقال

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، مؤسسة آل البيت، قم، ط1:  7/61.

[2] - نفس المصدر.

[3] - نفس المصدر.

[4] - الحدائق الناضرة، المحقق البحراني، جماعة المدرسين، قم: 14/103.

[5] - مسالك الافهام - الشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الإسلامية، ط1: 2/133.

[6] - مدارك الأحكام، السيد محمد العاملي، جماعة المدرسين، قم: 7/47.

[7] - جواهر الكلام،: 17/266.

[8] - رياض المسائل (ط.ق)، السيد علي الطباطبائي:  1/339.

[9] - جواهر الكلام: 17/268.

[10] - مسالك الافهام: 2/134.

[11] - الروضة البهية، الشهيد الثاني، مؤسسة الداوري، قم، ط1: 2/166.

[12] - مسالك الافهام، الشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الإسلامية، ط1: 2/133.

[13] - كشف اللثام، الفاضل الهندي،مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1: 5/103.

[14] - الوسائل ب 10 من أبواب وجوب الحج  وشرائطه ح2.

[15] - المصدر السابق ب 10 ح6.

[16] - المصدر السابق ب 21 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح5.

[17] - كشف اللثام، الفاضل الهندي،مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1: 5/103.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية