النّقد علم،
وممارسته فنّ، وللعلم أُسسه وقواعده، وللفنّ أصوله
ومبادئه، فليس كل رأيّ شخصيّ يطلقه المرء ولا كلّ هوىً
يتّبعه في أحكامه يصدق عليه اسم النّقد، بل للنقد قواعد
علمية وغايات عملية وضوابط خلقية هي التي تشكّل حقيقته
وتحدّد ماهيته وتعيّن مناهجه، وتنأى به عن أن يكون
أمرا
سائبًا
يدّعيه كل مدّع، ويعبث به كل دخيل.
وقد ابتُليت
الشعائر الحسينية بقوم من الدخلاء على النقد، نصَّبوا
أنفسهم أسيادًا على الرأي وجعلوا أهواءهم مصادر للأحكام،
وهم قوم تنقصهم الثقافة النقدية حتى في أبسط صورها.
والحقّ أنّ
جانبًا مما
يتصل بالمجالس والشعائر
الحسينية بحاجة إلى التعديل والتطوير، وفي عملية التعديل
والتطوير لا بدّ من النقد، ولكن شتّان بين ناقد مخلص خبير،
وبين متعدٍّ مدّع دخيل. وإننا لنشعر بالامتنان لجهود الأول
ونبادل عمله بالشكر، ولكننا نشفق على الثاني ونشعر نحوه
بالارتياب.
حدود البحث:
يرتكب
الدخلاء على نقد الشعائر الحسينية نوعين رئيسيين من الخطأ([1])،
يتعلّق أحدهما بالموضوع الذي ينصب عليه النقد وبحيثياته
وعناصره، ويتّصل الآخر بقواعد النقد وبأسسه وشروطه، ولنسمّ
الأول بـ(الخطأ المضموني)، ولنسمّ الثاني بـ(الخطأ
المنهجي)، ولنوضّح هذين النوعين من الخطأ ببعض
الأمثلة:
إذا أخطأ
الناقد عند دراسته لشعيرة من الشعائر الحسينية في تحديد
زمان نشوء هذه الشعيرة أو مكان نشوئها، أو أخطأ في وصف
مسار تطوّرها أو في الحكم على مدى شرعيّتها الدينية... فإن
مثل هذه الأخطاء تتعلق بحيثيات الموضوع الذي يتناوله النقد
فيصدق عليها مصطلح (الخطأ المضموني).
ولكنه لو
أخطأ في تعميم ما يشهده من عيوب عند خطيبٍ من الخطباء على
الخطباء كافّة، أو أخطأ في إطلاق ما رآه في مجلس من
المجالس على المجالس عامّة، أو إذا ما انتقص من دور شعيرة
من الشعائر لأنها لم تؤدّ إلى غاية هي ليست من غاياتها
أصلاً... فإن مثل هذه الأخطاء تنتج عن الإخلال بأسس النقد
وقواعده وهذا ما يجعلها تندرج تحت مصطلح (الخطأ المنهجي).
والذي
يهمّنا في هذه المقالة هو الإشارة إلى جانب من أخطاء النوع
الثاني أي الأخطاء المنهجية، وأما الأخطاء المضمونية فهي
بحاجة إلى بحوث أخرى مستقلة، وما قد يرد من إشارات إليها
في ثنايا هذه المقالة فهو إنما يرد عَرَضًا وبما تقتضيه
ضرورات البيان.
هذا وإن ضيق
المجال قد حال بيننا وبين ذكر كل ما يمكن ذكره من الأخطاء
المنهجية([2])،
ولذلك اكتفينا باختيار بعض النماذج مما رأيناه وافيًا
بإعطاء صورة جليّة حول ما يرتكبه أدعياء النقد من هذه
الأخطاء وحول ما يُخفيه بريق بيانهم من مجانبة لروح العلم
ومن خيانة لمسؤولية الحكم.
وإلى القارئ
الكريم بيان جملة من تلك الأخطاء:
- تصور الخطط وتكليف الآخرين بتنفيذها:
إن للموقع
الذي تصدر عنه الكلمة دورًا كبيرًا في مدى تأثيرها،
فالكلمة عينها قد تجد الرضا والقبول تارة، وقد تُواجَه
بالرفض والاستهجان تارة أخرى، والذي يؤثّر قي تفاوت
الحالين هو الاختلاف بين الموقعين اللذين تصدر عنهما
الكلمة.
فمثلاً لو
انتقد أحد الطلاب تعقيد المناهج الدراسية واحتج على ما
فيها من خلل، فإن انتقاده يكون مفهومًا واحتجاجه مبررًا،
ولكن لو صدر هذا الانتقاد عينه عمن يمتلكون زمام الأمور
وتقع على عاتقهم مسؤولية إيجاد الحلول، لكان انتقادهم هذا
لغوًا، واحتجاجهم هروبًا من المسؤولية.
والأمر عينه
ينطبق على بعض منتقدي الشعائر الحسينية ممن يعتبرون أنفسهم
في موقع المسؤولية ومن أولي الشأن وأصحاب الرأي، حيث
يقومون بالقدح في النصوص التاريخية للسيرة الحسينية
ويصفونها بأنها مملوءة بالخرافات والأساطير ومشحونة
بالأخطاء والأباطيل، ويصفون خطباء المنبر الحسيني بالتصنع
والتمثيل، ويتهمونهم بالجهل والتزوير، ثم يتناولون
بانتقاداتهم المسؤولين عن إقامة المجالس وإدارتها، ويحملون
على جمهور المشاركين، ويشنّعون ويقدحون... ولا يكادون
يستثنون.
ولكن ما
الذي يفعلونه بعد ذلك كله وهم من أولي الأمر ومن أصحاب
الشأن كما يدّعون؟! إنهم لا يفعلون شيئًا سوى مطالبة
الآخرين ببذل الجهود وبتصحيح الأمور وإبداع الحلول، وهذا
ما يجعل تشكيكاتهم في موضع الريبة وانتقاداتهم في موضع
الاستهجان.
ولو كانوا
من أهل المسؤولية فعلاً، ومن المهتمين بإصلاح الشعائر
الحسينية حقًا، لَوجب عليهم أن يحاولوا القيام ببعض ما
يستوجبه موقع المسؤولية من الأفعال, فيبادرون قدر إمكانهم
إلى إخراج سيرة مصحّحة مقبولة، ويبدؤون بإعداد الخطباء
إعدادًا مناسبًا، ويشرعون بتهيئة القيّمين تهيئة ملائمة،
ولا يكتفون بالممارسات السلبية من طعن وتشكيك ولوم وتشنيع
مما لا ينتج سوى الإساءة للشعائر، ولا يكون له في مسيرة
التغيير والتطوير أدنى نفع.
ولعل في
النص التالي للفيلسوف الألماني (كانت) خير تصوير لحال
هؤلاء النّقاد ومن هم على شاكلتهم، حيث يقول في تمهيد
كتابه "مقدمة لكل ميتافيزيقيا مقبلة يمكن أن تصير علمًا":
"كنت أستطيع أن أجعله كتابًا شعبيًا مقبولاً ومفهومًا من
الجميع (...) إذا كانت الغاية الوحيدة التي أنشدها هي وضع
الخطة التي أكلّف الآخرين بتنفيذها، وإذا كنت لا أهتم
بإصلاح هذا العلم الذي شغلت بأموره فترة طويلة (...) إنها
لمهمة تافهة تلك التي يقوم العقل بها، أو أنها ضرب من
التصلّف الذي يلعب فيه العقل دور المبدع، أن يتصور الخطط
ثم يطالب الآخرين ببذل الجهود التي لا يقوى هو على بذلها،
ويوجّه لهم اللّوم على الأعمال التي لا يقدر هو على
إنجازها، ويقترح المسائل التي لا يعلم هو كيف يكون حلّها"([3]).
فليت
الدخلاء على نقد الشعائر الحسينية يفقهون، فيقلّوا من
اللّوم، وينجزوا بدلاً من ذلك شيئا من العمل متّبعين
الحكمة القائلة:
أن تضيء شمعةً خيرٌ من أن تلعن الظلام ألف مرة.
- فصل الظاهرة عن غايتها
الغاية من
ربط العربة بالحصان هي أن يجرّ الحصان العربة، ولكي يمكن
تحقيق هذه الغاية فإنه لا بد من وضع الحصان أمام العربة.
وللحكم على
مدى جودة برنامج من برامج الكمبيوتر فإنه يجب أولاً معرفة
الوظيفة التي صمّم هذا البرنامج لأجلها، إذ لا يصح انتقاد
برنامج معدّ للرسم بحجّة أنه لا يفي بأغراض برامج
المحاسبة.
فالأمور
ترتبط بوظائفها وتحاكم على ضوء غاياتها، والشعائر الحسينية
لا تشذّ عن هذه القاعدة، ولا تُستثنى من هذا المنهج، ولكن
أدعياء النقد غالبًا ما يقطعون الشعيرة عن غايتها، ويحكمون
عليها بمعزل عن وظيفتها.
لذا تجد
بينهم من يقترح أن يصار إلى الإحياء الفردي للشعائر
الحسينية بدلاً من إحيائها بصورة جماعية، وهو يتغافل بذلك
عن بعض الغايات المهمّة لإقامة هذه الشعائر، فإن من
غاياتها تعميق الصلات بين المؤمنين المشاركين في إقامتها،
ومن غاياتها أيضا التوظيف الاجتماعي لثورة كربلاء...، وهي
غايات يتوقف تحققها على المشاركة الجماعية ويستحيل بلوغها
بالعزلة والإحياء الفردي.
وتجد آخرين
يَدْعون إلى الاقتصار على إقامة الذكرى الحسينية في يوم
واحد فقط كاليوم العاشر من المحرّم بدلاً من إقامتها عشرة
أيام أو أكثر، وهم يتناسون أن من أهداف إقامة الشعائر
تجذيرَ الارتباط بآل بيت النبوّة (عليهم السلام)، وترسيخَ
قيم الثورة في النفوس... وهي أمور تحتاج إلى تذكير وتنويع
وتكرار, ولا يمكن تحصيلها بالاقتصار على إقامة الذكرى في
يوم واحد أو يومين.
ومنهم من
يحمل على الجانب العاطفي في الشعائر مستهجنًا ظاهرة البكاء
وذرف الدموع داعيًا إلى الاقتصار على إقامة المؤتمرات
وإحياء الندوات، ولعله يجهل أن من بين غايات إقامة الشعائر
تأكيدَ الارتباط العاطفي والتفاعل الوجداني بين المشاركين
بكل مستوياتهم وبين الثورة الحسينية وما تحمله من أهداف،
وأن الأمر لا يقتصر على التفاعل الفكري والوعي السياسي
وحدهما.
وبناء على
ما تقدّم يظهر جليًا قصور أدعياء النقد عن فهم الشروط
اللازمة لكي تحقّق الشعائر غاياتها وتؤدي إلى أهدافها،
ولذلك يأتي هجومهم على العديد من طرق إحياء الشعائر من غير
إدراك منهم للغايات التي تهدف إليها تلك الطرق، ومن دون
فهم للشروط اللازمة لتحقيق تلك الغايات، فيغدون كمن
يريد من الحصان أن يجرّ العربة ولكنه يضع العربة أمام
الحصان.
- عزل الظاهرة عن محيطها
يقتضي المنهج العلمي
السليم أن تُدرس الظاهرة في ظلّ محيطها، وأن يُفهم الجزء
من خلال الكلّ الذي ينتمي إليه, وذلك لما بين كل قضية
وبين بيئتها من ارتباط وثيق يفضي إلى تأثير كل منهما في
الأخرى وتأثرها بها.
يقول الدكتور فاخر عاقل
في كتابه "مدارس علم النفس": "..أنك حين تراقب
إنسانا يمشي, إنما تلاحظ الحركة كمجموع, ولا تلاحظ تفاصيل
الحركة, حتى إنّك لتستغرب ما قد
يُعرض عليك من صُوَر فوتوغرافية التقطت لهذا المشي"(4).
ويبين الدكتور "علي عبد
الواحد وافي" هذا الأمر بالنسبة إلى الظواهر الاجتماعية
فيقول: ".. أن من سنّتها الاختلاف والتطوّر، فهي تختلف
باختلاف المجتمعات وتختلف في المجتمع الواحد باختلاف
عصوره"(5).
ويقول أيضًا: "إن الظواهر الاجتماعية يرتبط بعضها ببعض
ارتباطًا وثيقًا، ويؤثّر بعضها في بعض، ويتأثّر بعضها
ببعض" (6).
ولا تخرج
الشعائر الحسينية في جانبها الاجتماعي عن هذه السنن
العامة، ولا تشذّ عما تقتضيه تلك السنن من قواعد وأحكام,
وعليه فإن المجتمع إذا كان يعاني بشكل عام من بعض مشكلات
التطور والتي تؤدي به إلى العجز عن القيام بوظائفه
بالطريقة المثالية المرتجاة, فإن هذا العجز سينعكس تلقائيا
على كافة البنى والمؤسسات, ولا يختص ببعضها دون بعضها
الآخر.
ومن هنا
يظهر وجه الخطأ الذي يقع فيه أدعياء النقد حين ينتقدون
المستوى الثقافي لخطباء المنبر الحسيني, ويجرِّحون بوعي
المشاركين وبأسلوب مشاركتهم, ويحملون على مقاصد المنظمين
وطريقة تنظيمهم... ويتغافلون في كل ذلك عن الواقع
الاجتماعي العام الذي تقام الشعائر في محيطه.
ولو أنهم
التفتوا إلى هذا الواقع لوجدوا أن المآخذ التي يثيرونها
تشكل سمة عامة من سمات المجتمع, ولا تقتصر على الشعائر
الحسينية بالخصوص, فحال الشعائر والمجالس من هذه الجهة لا
تختلف عن حال الجامعة والمستشفى والإدارة العامة والهيئة
الثقافية والسلطة السياسية... وإن المرء ليواجه في كل آنٍ
ما تعانيه هذه البنى والمؤسسات من مشكلات في الإدارة
وطريقة التعامل...
ومن ذلك
يظهر أن المشكلات التي قد تعاني منها الشعائر الحسينية في
جانبها الاجتماعي إنما هي من نتائج الحالة الاجتماعية
العامة وليست سببا لها. وإنه لظلم عظيم ما يقوم به الدخلاء
على النقد من عزل الشعائر عن محيطها ومحاكمتها بعد ذلك
وكأنها هي العلة المسببة لما يعانيه المجتمع من مشكلات ،
أو الإيحاء -وعلى أقل تقدير- بأن الشعائر الحسينية ومن بين
كل البنى
الاجتماعية هي الميدان الوحيد لظهور مثل هذه المشكلات.
ولسنا نقصد
بكلامنا هذا تبرير النقائص ولا الغض عن العيوب, ولكننا
نقصد طلب الواقعية في الفهم مما يضع كل قضية في نصابها
الصحيح, بحيث يبقى السبب سببا والنتيجة نتيجة ولا تختلط
الأسباب بالنتائج, وهو ما ييسر إدراك المسائل بصورة
موضوعية, ويجعلنا أكثر قدرة على فهم المشكلات واكتشاف ما
يلائمها من حلول.
والنقطة
الجوهرية التي يجب أن نستخلصها هي أن بعض المشكلات
الاجتماعية لا يمكن إيجاد الحلول لها بصفتها الفردية
وبصورة تجزيئية, وإنما يكمن الحل في تغيير الروحية العامة
السائدة, ثم وكنتيجة لذلك سوف تظهر آثار التغيير في كل
زاوية من زوايا المجتمع, وذلك من قبيل ما يصنعه المزارع
الخبير حين تصيب آفة من الآفات إحدى شجرات بستانه فتظهر
آثار ذلك على الثمرات التي تحملها هذه الشجرة,فإنه لا يسعى
في هذه الحال إلى علاج كل واحدة من الثمرات بمفردها, ولكنه
يتوجه إلى الأصل الذي نتجت عنه تلك الآفات, فيعالج الجذع
أو الجذور - مثلاً - لتتعافى وكنتيجة لذلك كل الثمار.
والخلاصة هي
أن أي نقد للظواهر الاجتماعية إذا أراد أن يكون نقدا علميا
ومخلصا, فعليه أن يكون مدركا للدرجة التي
يشغلها
المجتمع في سلم الحضارة والتطور, وأن يكون على معرفة
بالخصائص العامة للمجتمع, ثم يربط بين هذين الأمرين وبين
الظاهرة التي يدرسها, ليصدر بعد ذلك أحكامه ويقترح طرق
العلاج وأساليب الحلول.
ولذلك
يمكننا القول بأن كل نقد وكل اتهام للشعائر الحسينية لا
يستمد عناصره من الواقع الاجتماعي القائم فهو نقد متهم,
ولو أحسنا الظن فيمكننا أن نقول: إنه نقد جاهل.
يتبع =
ــــــــــــــــــ
[1]
- نطلق في هذه المقالة لفظ
(الخطأ) على كل فكرة أو قاعدة تجانب الحق
والصواب
سواء كان السبب في ذلك الغفلة والاشتباه أو
التعمّد والقصد.
[2]
- من أمثلة ذلك: الاجتزاء من النصّ الواحد،
وانتقاء نصّ وتجاهل ما يعارضه، والتعميم في غير
موارد التعميم، وتعمد التزييف والتحريف، وأمثال
هذه الأمور...
[3]
- كانت: مقدمة لكل ميتافيزيقا
مقبلة يمكن أن تصير علما، تعريب الدكتورة نازلى
إسماعيل حسين، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر،
القاهرة، 1388 ﻫ -1968م، ص 50-51.
4
- د. فاخر عاقل: مدارس علم النفس, دار العلم
للملايين, بيروت, ط3, 1977, ص 150.
5
- د. علي عبد الواحد وافي: علم الاجتماع, دار نهضة مصر
للطبع والنشر, الطبعة الثانية, ص 7.
|