- الوزن مع خلل الميزان
يقيس
العقلاء المسافة بالأمتار مثلاً، وثقل الأجسام
بالكيلوغرامات، ويحكمون على صحة الأفكار بمطابقتها للواقع،
ويقدِّرون القيم الخلقية بأثرها على التكامل المعنوي
للإنسان، ويجعلون الذوق الشخصي معيارًا للرغبة في بعض
المحسوسات كالطعام والشراب..
فهم يبنون
أحكامهم في الميادين المختلفة على معايير محدّدة وموازين
معيّنة ولا يطلقونها على هواهم وكيفما شاؤوا، كما أنهم
يراعون في معاييرهم هذه شرطين أساسين هما: التناسب،
والوحدة.
ونقصد بـ"التناسب"
أنهم يتّخذون لكل نوع من أنواع القضايا ميزانًا يلائم
طبيعة تلك القضايا، فيجعلون ميزان صحة الأفكار مطابقتها
للواقع، وميزان السّعة هو الليتر وهكذا...
ونقصد بـ"الوحدة"
أنهم إذا اتخذوا ميزانًا معيّنًا لتقويم أمر من الأمور فهم
يحافظون على هذا الميزان نفسه في كل ما يماثل ذلك الأمر
ويتفق معه في حقيقته، ولا يزِنون أمرين متماثلين بميزانين
مختلفين، فإذا اتخذوا التكامل ميزانا للأخلاق فإنهم
يستخدمون هذا الميزان في كل قضية خُلقية، ولا يحكمون على
إحدى القضايا الخُلقية بمعيار التكامل المعنوي وعلى قضية
خلقية أخرى بالذوق الشخصي مثلاً.
هذا هو
الطريق العقلائي في بناء الأحكام، وهو ما يفرضه المنهج
السليم أيضًا.
ولكن عندما
تصل النوبة إلى الشعائر الحسينية, فهنالك تختلط الأوراق
لدى الدخلاء على النقد وتلتبس المقاييس ويصير الكل قضاة.
فهذا يحكم
على أساس ما يتصوّّره من ردّة فعل عند الآخرين، وذاك يقضي
على ضوء بعض مصطلحات الحضارة الغربية، وثالث يتخّذ من ذوقه
الشخصي ميزانًا للحكم..
ومن أمثلة
ذلك موقفهم من شعيرة اللطم على سيد الشهداء (عليه السلام)،
فهم يرون أن هذه الشعيرة يجب أن تترك وتمحى من قائمة
الشعائر، وحجتهم في ذلك هي أن أسلوب اللطم أسلوب تقليدي،
لا يناسب عصر الحداثة والتطوّر، ويقولون إن
الشعور القلبي يكفي فلا نحتاج إلى هذه المظاهر،
ويذهبون إلى أن هذه الشعائر تُسيء إلى التشيّع...
ولو رضينا
بمثل هذه الموازين، وسلّمنا بملاءمتها للحكم على الشعائر
الدينية، لغدا من المناسب أن يترك المؤمنون صلاة النوافل،
لأن الشعور القلبي يكفي.
ولتحتم
علينا أن نحرّم تعدّد الزوجات لأنه لا يناسب عصر الحداثة،
ولأن أعداء الدين الحنيف يتخّذونه وسيلة للتشنيع على شرعنا
المقدّس...
وإذا أراد
أدعياء النقد أن يتخلّصوا من مثل هذه التبعات التي تؤدّي
إليها مقاييسهم فإن عليهم أن يختاروا بين أمور:
فهم إما أن
يقرّوا بخطئهم ويعترفوا بأن موازينهم لا تلائم القضايا
الشرعية، وعليهم حينئذٍ أن يبدّلوها ويأتوا بموازين أخرى
تكون أكثر ملاءمة، وإما أن يظلوا على موقفهم ولكن يلجؤون
في الحكم على مثل صلاة النوافل وتعدّد الزوجات إلى موازين
أخرى مغايرة لموازين الحكم على الشعائر الحسينية،
فيُخلِّون بذلك بشرط وحدة الميزان في القضايا المتماثلة.
ولهم أخيرًا
أن لا يفعلوا لا هذا ولا ذاك, بل يتمسكون بمقاييسهم هذه
ويتّخذونها موازين حتى في مثل صلاة النوافل وتعدد الزوجات،
ولكن عليهم أن يرضوا عندها بما يترتب على ذلك من نتائج
وتبعات, فيحرّمون المباحات ويستغنون عن المندوبات.
وهنيئًا لهم
ما يوقعون أنفسهم فيه.
- التهويل
والتوهين
ليس علماء
الطبيعة هم وحدهم من يمتلكون كيمياء خاصة بهم تمكّنهم من
إجراء التحويلات في عالم المادة، بل لأدعياء النقد أيضًا
كيمياؤهم المميّزة والتي يستطيعون من خلالها تغيير الحقائق
وقلب الوقائع، ويشغل أسلوب التهويل والتوهين محلّ اللبّ من
هذه الكيمياء، فهو يُمكِّنهم من تحويل الحبّة إلى قبّة
والقبّة إلى حبّة.
ولذلك فهم
يتفنّنون أيّما تفنّن في استخدام هذا الأسلوب في نقدهم
للشعائر الحسينية فيهوّلون ويوهنون ما استطاعوا إلى ذلك
سبيلاً، ومن مظاهر تهويلاتهم ما يرسمه بعضهم من صور
كاريكاتورية لطريقة خطباء المنبر الحسيني، ولأسلوب
إلقائهم, ولتعابير وجوههم, ولنبرات أصواتهم, مما يُشعر
المرء وكأنه يشاهد بعض الممثلين الهزليين وهم يؤدّون
أدوارهم على خشبة المسرح.
ومن مظاهر
تهويلاتهم أيضًا ما يتعمََده بعضهم من اختيارٍ لمصطلحات
مسيئة يقرنها بالشعائر الحسينية, وذلك من قبيل: الجهل
والتخلّف والرياء والخرافة...، وهو يحرص على زجِّ هذه
المصطلحات في العبارات التي يستخدمها وفي عناوين الموضوعات
التي يكتبها، ليتحفنا بعباراته وعناوين من قبيل:
(الشعائر الحسينية والتخلّف)، (الشعائر الحسينية ومظاهر
تعذيب الذات)، (مؤسسات صناعة الأساطير)... حتى
ليتبادر إلى الذهن أن أمثال
هذه
المصطلحات والعناوين تمثل كل حقيقة الشعائر وتبين كل
واقعها, وليس وراء ذلك من أمر سواه.
أما كيمياء
التوهين فإنها تتجلّى عند هؤلاء النقّاد في تصغيرهم لوظيفة
الشعائر وفي تقليلهم من شأن ما تقوم به من دور, سواء على
المستوى الفكري أو النفسي أو الاجتماعي... ولذلك فهم يدعون
إلى تقليص المشاركة بإحياء الذكرى الحسينية, والى اختصار
زمان إقامة الشعائر ويحضُّون على الاكتفاء بالمشاركة
الرمزية، بل يقترحون استبدال الشعائر بإقامة بعض المسرحيات
ومشاهدة بعض التمثيليات.
هذه هي
كيمياؤهم، وهي كيمياء شائعة في المجتمعات التي تعاني من
مشكلات التخلف، حيث يصار إلى تضخيم الحقائق أو تصغيرها مما
يزيد في تعقيد الحلول, بدلاً من رصد الأمور بشكلها الواقعي
وإظهارها بصورتها المجردة ليتسنى بذلك إدراك السبل الصحيحة
لإحداث التغيير والتعديل.
وقد شخّص
المفكّر الجزائري "مالك بن نبي" هذه الظاهرة، فعبّر عنها
بقوله: "إنها طريقة مخدّرة في التفخيم أو التصغير، فيقال:
(كل الدنيا تعلم ذلك) عندما يراد تأييد رأيٍّ، أو يقال:
(لا أحد يعتقد ذلك) للانتقاص من رأي آخر، وباختصار إنه حشو
الكلام، حيث نجد الكلمة - بدلاً من أن توضح المعنى - تقتصر
على إلقاء ظلّ جديد يزيد في غموضه"(7).
وما أدق هذا
التشخيص في وصف حال أدعياء النقد, حيث تكثر الظلال التي
يلقونها على الشعائر الحسينية بدلاً من أن يحاولوا الإيضاح
وابتكار الحلول.
- المنهج الظلامي
يلاحظ بعض
الناس القسم الفارغ من الكأس فقط ويعمَون عن ملاحظة قسمه
الملآن، ويرى آخرون القسم الملآن منه ولا يرون قسمه
الفارغ، وكلا الفريقين يخطئ الحقيقة, ويخالف ما يدعو إليه
المنهج القويم من الموضوعية في الرؤية، وذلك بأن يلاحظ
الكأس كله وبقسميه الفارغ منهما والملآن.
والمائز
الجوهري بين الفريقين هو أن الفريق الأول محجوب عن الحقيقة
الكاملة بحجب ظلمانية، وأما الفريق الثاني فهو محجوب عنها
بحجب من نور.
والدّخلاء
على نقد الشعائر الحسينية هم من أتباع الفريق الأول
المحجوب عن الحقيقة بالحجب الظلمانية، ولذلك فهم يبالغون
في تحسّسهم النقائص مما قد يعرض على بعض الممارسات،
ويوغلون في إظهار العيوب، ولكنهم - في المقابل - لا يكادون
يبصرون ذرّة من خير ولا قطرة من عطاء, فهم يتعمّدون تقصّي
النقائص وضمها إلى بعضها وتكرار الحديث حولها، ويسكتون في
الوقت نفسه عن جوانب الخير وعن جهات النفع، بل إن بعضهم
يبدو وكأنه قد صار من أصحاب الاختصاص في التجريح بالشعائر،
ولا علاقة له مطلقًا بما تتضمنه هذه الشعائر من إيجابيات.
وهذا ما
يشكل انحرافا عن الموضوعية، وسقوطا في منهج الظلمات،
أعاذنا الله من الوقوع في شراكه، ومن العلوق بحبائله فإنه
من مصائد الشيطان.
كلمة ختامية
يظهر مما
تقدم مدى خطورة الآثار المترتبة على عملية النقد, فالنقد
أداة حساسة من أدوات المعرفة, واستخدامه مسؤولية كبيرة
ملقاة على عاتق الإنسان, فلا ينبغي أن يتصدى له الجاهل
بقواعده وشروطه وغاياته, فإن المعرفة الإنسانية - ومن
جملتها النقد - نعمة إلهية عظيمة شرَّف الله بها الإنسان,
فلا ينبغي له كفرانها بالتجاوز عن قواعدها والإخلال
بشروطها, كما لا ينبغي له خيانتها بالتوسل بها إلى غير
غاياتها, ولذلك يجب أن يُتَخذ من النقد وسيلة للبناء
والتطوير, ولا يُجعل مجرد أداة للهدم والتخريب.
انتهى المقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7
- مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم
الإسلامي, تعريب محمد عبد العظيم علي, دار الفكر,
بدون تاريخ, ص 80.
|