العدد الرابع / 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

البعد الغيبي  في حركة الإمام الحسين (عليه السلام)

الشيخ محمد جواد الفقيه*

بالرّغم من البعد الزمني الفاصل بيننا وبين واقعة الطف فإن شخصية الإمام الحسين وحركته البنّاءة يظلان محطّ الاهتمام لدى أهل الفكر ومثارًا للتأمّل والنقاش في أكثر من جانب، ولعل أكثرها أهميّة هو البعد الغيبي الذي تجلّى في كلماته ومخاطباته، قبل وبعد نزوله أرض كربلاء، حيث صرّح (عليه السلام) في أكثر من مناسبة بأنه سيستشهد.

 هذا الجانب أنكره البعض معللاً ذلك بأنه لو حصل لكان ضربًا من إيقاع النفس في التهلكة الحرام، بينما رأى البعض الآخر أنه إيقاع في معرض الهلكة، وفرقٌ بينهما، إلا أنه لا ينفي اللوم، وفي كلا الحالين تنجرّ النتيجة إلى القول أنه ما كان ليعلم أنه (عليه السلام) سيستشهد، ولو علم لما فعل..

ولعل أرباب هذا الرأي قد غلبهم تصورهم إلى أن الحسين (عليه السلام) صحابي جليلُ طفحت به غيرته على الإسلام فنهض بأهله وعياله وأصحابه القلة معرّضًا إياهم للموت أو الأسر، وهذا الكلام في نظري يندرج تحت خانة مظلوميته (عليه السلام)، لما فيه من الخدش الواضح في بُعد نظره (عليه السلام) ومعرفته بالأمور.

 فالحسين (عليه السلام) عاش مع جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) سبعًا وثلاثين سنة([1])خَبر خلالها الحياة السياسية بمعناها الحقيقي المرتبط بقِيم الإسلام وأخلاقياته، كما خبرها بمعناها السائد الذي لمسه في ممارسات أمراء عصره، فعرف الناس على حقيقتهم وعرفوه، كما عرف معاصريه الحكام وأخلاقياتهم حق المعرفة.

بالإضافة إلى هذا فقد خاض مع أبيه أمير المؤمنين أعنف حروبه (الجمل وصفين والنهروان) فخبر ضراوة الحروب وقسوتها وأخطارها، وإنسانٌ بهذا المستوى ما كانت لتغيب عنه أخطار تلك المرحلة فيجازف بنفسه وأهله وأصحابه في رحلةٍ، الموتُ فيها ماثل للعيان، ومعها لا جدوى ولا ضمان لتحقيق الأهداف المتوخاة التي نهض لأجلها، لولا أن للغيب فيها يدًا.

 فكم من ثورة قُبرت في مهدها عبر التاريخ الطويل ولم يحصد دعاتها غير القتل والإبادة الجماعية، فالثورات التي حصلت وتحصل مهما كانت أبعادها السياسية والاجتماعية فإن نجاحها يشكل حالة اجتماعية تمتدّ لزمان محدود ما تلبث أن تزول بعده.

 أما أن تُباد ثلّةٌ قليلة من الناهضين للإصلاح في أمّة ما، ثم يُفرخ ذلك ثورات وثورات حتى يتحقق الهدف الأول للثائر الأول، فهذا ما لم نعهده في التاريخ إلا في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام).

وأكثر ما يثير العجب أن ذلك الرجل العظيم بالرغم من مواجهته لأشكال المُلاحقة والترويع والتهديد والحصار، رأيناه وهو في ذروة أهوالها يتحرك تحرك الفاتح المنتصر، يستشرف الآتي فيلمح فيه تباشير الفتح المرهون بارتقاء سدّة الشهادة، ولا يتردّد في إعلان ذلك أمام التاريخ موثّقا إياه ضمن كتاب بعث به إلى من تخلّف عنه من أهل بيته:

أما بعدُ، فمَن لحق بي منكم استشهد ومن تخلّف لم يبلغ الفتح([2]).

لقد ألمسه الغيبُ تباشير النصر فنحا به نحو الخلود، حتى تجذّرت دعوته الإصلاحية فيه، وتمدّدت لتحتل مساحاتٍ شاسعة في الضمير الإنساني كما في الضمير الإسلامي، وبذلك كُتب لهذه الحركة المباركة أن تتخطى حدود الزمان والمكان، لتصبح منارة يهتدي بها طلاب العزة والحرية والكرامة في هذا العالم.

وهذا ولا شك يُشعرنا بأن الحسين (عليه السلام) لم يكن إنسانًا عاديًا كما يتوهم البعض بل يرتفع إلى مصاف الأنبياء والأوصياء وهو معنى الإمامة.

علمُ الغيب

 وهو على قسمين.

الأول: علم الغيب المتعلق بالذات الإلهية المقدسة، وهذا ما لا يمكن لأحد أن يطلع عليه لا نبيٌّ مرسلٌ ولا ملَكٌ مقرّب.

الثاني: العلم المفاض منه سبحانه وتعالى على من شاء من عباده، وهو على نوعين.

أحدهما: العلم بالموضوعات الخارجية الواقعة الموجودة ضمن عالم المادة ولكنها محجوبة عن العيان، كطرق السماوات وعدد المجرات وحجمها، ومسالك الأرض وما حوت بواطنها، وكالجنة والنار (على فرض خلقهما) وما إلى ذلك مما يعجز الإنسان عن إدراك كنهه وخصائصه مع أنه موجود قطعًا.

ومثال ما يندرج تحت هذا، إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) الناس بمكة عن معراجه حيث قال لهم: آية ذلك أنه ندّ([3])لبني فلان في طريقي بعير، فدللتهم عليه، وهي (أي القافلة) الآن تطلع عليكم من ثنية كذا يقدمها جمل أورق([4])عليه غرارتان([5]): إحداهما سوداء، والأخرى برقاء([6])فوجدوا الأمر على ما قال.

وكإخبار عيسى (عليه السلام) قومه بما يدّخرون وما يأكلون مع أنه بعيد وغائب عن العيان {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}([7]).

ثانيهما: العلم بالموضوعات الموجودة بالقوّة لا بالفعل.. بالوجود التقديري لا المادي، أي ما هو غير واقع فعلاً لكنه سوف يقع، ونعني به ما قضاه الله وقدّره في علمه سبحانه، حيث إن كلَّ مقدر في علم الله فهو كائن، ومنه علم الآجال المعبر عنه بعلم (المنايا والبلايا) وعلم الأرزاق الموجود بالوجود التقديري، وهذا هو محل الكلام، وهو المعبر عنه بالعلم اللدني.

عِلمُ النبيّ والإمام

من هنا نقول: إن علم النبي (صلى الله عليه وآله) بالغيب إنما يندرج تحت القسم الثاني من قسمي العلم بنوعيه، فهو علم مفاض من الله تعالى على النبي (صلى الله عليه وآله)، وما كان للنبي أن يعلمه من ذاته.

وقد يتوهم البعض أن علم الغيب بالمعنى المتقدم مما استأثر به سبحانه لنفسه، مستفيدًا ذلك من قوله تعالى:

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }([8]).

وقوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ }([9]) مما يفهم منه عدم إظهار هذا العلم للغير.

إلا أن ذلك مردود بقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}([10]).

وقوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}([11]).

فإن هذا الاستثناء كافٍ في الدلالة على إشاءته تعالى لأن يحيطوا بشي من علمه. بل أظهره على من شاء، بلطف منه جلّ شأنه، وتعليم من لدنه جلّ ذكره، كالخضر (عليه السلام) وسليمان وداود وغيرهم. والرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) هو أبرز مصاديق (من ارتضى) سبحانه لأنه سيد الأنبياء وهو الأولى بالكرامة منه تعالى، لأن به تمامية الحجة على الناس.

ثم إن الكلام في علم النبي يشمل العلم بالأمور التقديرية من الآجال والأرزاق والمنايا وغيرها مما ظاهره استئثاره به تعالى والتي يجمعها قوله جلّ شأنه: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}([12])، فإن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قد اشتملت على كثير من هذا مما ليس ها هنا بيانه.

أما علمه بالأحكام، الكليّة والفرعية فإنه من المسلّمات، لأن بيانها من خصائصه ووظيفته، وجهله بها نقص في رتبته وحط من منزلته، إذ لا يجوز أن يُسأل عن حكم لم يكن علمه به حاضرًا لديه، وإلا فإنه لا تتم له الحجة على العباد ولبطلت نبوته.

علم الإمام

بعد هذه المقدمة الوجيزة ننتقل إلى علم الإمام بعد النبي فنقول:

بما أن النبي (صلى الله عليه وآله) مفارق هذه الدنيا كان لا بد له من تنصيب خليفة له يتابع مسيرته ويكون له بعض مواصفات النبي (خلا النبوة طبعًا) كي تبقى الشريعة محافظة على قوتها وفاعليتها بعيدا عن العبث والتحريف.

فوصيُّ النبي وخليفتُهُ هو الحافظُ لأصول الرسالة وفروعها من بعده، وذلك يقتضي اللطفَ من الله تعالى بأن يؤيده بالعلم والمعرفة لكي تقوم به الحجة على الناس، أما إذا كان كبقية الناس في علمه سيما في الكليات فإنه سيكون عُرضةً للأخطاء الكثيرة التي تدع الناس في حيرة من أمرهم ولبس فيما يعتقدون وبالتالي يصل بهم الأمر إلى التشرذم والتشتت والضياع.

 ثم لا بد له من كرامات تفرده عن بقية الناس لتتم تلك الحجة، ومن تلك الكرامات أن يطلعه الله على بواطن الأمور وغوامضها، بعيدها وقريبها، وهو ما نجده عند جملة من الأنبياء والأوصياء، وقد ضرب الله لنا مثلا بآصف بن برخيا صاحب سليمان (عليه السلام) الذي أحضر عرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس بمدة هي أقصر من ارتداد الطرف، ومحمد (صلى الله عليه وآله) هو سيد الأنبياء وهكذا وصيّه سيد الأوصياء، و لا أدري لماذا ينكر الآخرون ما منحه الله تعالى من العلم مع أنه باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله)([13]). وهو القائل: (فتح لي رسول الله من العلم ألف باب يُفتح لي من كل باب ألف باب)([14]).

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مستشار ثقافي في رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.

[1] - منها عشر سنوات مع جده حيث توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وللحسين (عليه السلام) من العمر عشر سنوات تقريبًا.

[2] - مناقب آل أبي طالب، المطبعةالحيدرية النجف: 3/230 ؛ وفي كامل الزيارات: من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح.

[3] - نَذَّ: نَفَرَ.

[4] - أورق: رمادي اللون.

[5] - الغرارة: وعاء.

[6] - البرقاء: الشاة البيضاء التي في صوفها سواد.

[7] - سورة آل عمران الآية 49.

[8] - سورة الأنعام من الآية59

[9] - سورة النمل الآية 65

[10] - سورة الجن من الآية 26-27

[11] - سورة البقرة من الآية 255.

[12] - سورة لقمان الآية 34.

[13] - نظم درر السمطين، الزرندي الحنفي، ط 1377هـ: ص 113: عن ابن عباس (رض) أن رسول الله (ص) قال: أنا مدينة: العلم وعلي بابها فمن أراد بابها فليأت عليًا. وعن علي (رض) قال: علمني رسول الله (ص) ألف باب كل باب يفتح لي ألف باب.

قال الأميني في كتاب الغدير، دار الكتاب العربي، ط1379هـ:  ج6 ص61: أخرج حديث (أنا مدينة العلم) جمع كثير من الحفاظ وأئمة الحديث، ثم ذكر أسماءهم واحدًا واحدًا، فأحصى مائة وثلاثة وأربعين إمامًا وحافظًا.

[14] - ميزان الاعتدال، الذهبي، دار المعرفة، بيروت، ط1: 2/482: عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ادعوا لي أخي، فدعي أبو بكر فأعرض عنه، ثم قال: ادعوا لي أخي، فدعي له عثمان، فأعرض عنه، ثم دعي له علي فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال لك؟ قال: علمني ألف باب كل باب يفتح ألف باب.قال الذهبي: قلت: كامل صدوق.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية