العدد الرابع/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = البعد الغيبي في حركة الإمام الحسين (ع)

علمه بالمغيبات

وما ذكره لنا التاريخ من إخباره(عليه السلام) بالمغيبات قد يفوق حدّ التواتر.

قال أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام):

أيها الناس... فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْ‏ءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتًا وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وَكَانَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقًا تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ([1]).

لقد قال (عليه السلام) ذلك من منطلق خصائص الإمام، ولم يقله تخرصًا ولا استعلاء.

 (قال ابن أبي الحديد في تعليقه على هذا النص: أَقْسَمَ ( يعني عليًا) في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده، أنهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلا أخبرهم به، وأنه ما صح من طائفة من الناس يهتدي بها مائه وتضلّ بها مائة، إلا وهو مخبر لهم - إن سألوه - برعاتها، وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها، ومن يُقتل منها قتلاً، ومن يموت منها موًتا، وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادّعاء الربوبية، ولا ادّعاء النبوة، ولكنه كان يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقًا، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة.

كإخباره عن الضربة التي يُضرب بها في رأسه فتخضب لحيته، وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام، وما قاله في كربلاء حيث مر بها، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده، وإخباره عن الحجاج، وعن يوسف بن عمر، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان، وما قدّمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم، وصلب من يصلب، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها، وإخباره عن عبد الله بن الزبير، وقوله فيه: "خبٌّ ضبٌّ، يروم أمرا ولا يدركه، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش".. وكإخباره عن المملكة العلوية بالمغرب، وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: "ويخرج من ديلمان بنو الصياد"، إشارة إليهم. وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله عليه السلام فيهم: "ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء، ويخلعوا الخلفاء". فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: "مائة أو تزيد قليلاً".

وكإخباره عليه السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإن علي بن عبد الله لما ولد، أخرجه أبوه عبد الله إلى علي عليه السلام، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه، وقال: خذ إليك أبا الاملاك هكذا الرواية الصحيحة، وهى التي ذكرها أبو العباس المبرد في "الكتاب الكامل"...([2]).

ونحن بدورنا نكتفي بهذا القدر من الأمثلة فقط لننتقل منه إلى علم الحسين وأخيه الحسن والذرية الطاهرة من الأئمة الباقين (عليهم السلام) ، الذين أخذوا العلم بأشكاله عن آبائهم عن جدهم (صلى الله عليه وآله)، وهذه كتب الفريقين مليئة بالشواهد على ذلك، فالإمام الصادق (عليه السلام) أخبر عن انتقال الملك لبني العباس، مع أن الحركات الثورية آنذاك كانت بمجملها علويّة.

ففي آخر دولة بني أميّة وضعفها أراد بنو هاشم مبايعة محمّد الملقّب بـ(ذو النفس الزكية) وأخيه، فأرسلوا للإمام أن يبايعهما فامتنع، فاتُّهم بأنه يحسدهما فقال: (والله ليست لي ولا لهما، إنها لصاحب القباء الأصفر، ليلعبّن بها صبيانهم وغلمانهم، وكان المنصور العباسي يومئذ حاضرًا وعليه قباء أصفر، وما زالت كلمة جعفر تعمل فيه حتى ملكوا).

وسبق جعفر (عليه السلام) إلى ذلك والده الباقر فإنه أخبر المنصور بملك الأرض، شرقِها وغربِها وطول مدته، فقال له: ومُلكنا قبل مُلككم؟ قال: نعم. قال: ويملك أحدٌ من ولدي؟ قال: نعم. قال فمدّةُ بني أمية أطول أم مدّتُنا؟ قال: مدّتكم، وليلعبّن بهذا الملك صبيانكم كما يُلعب بالأكرة، هذا ما عهده إليّ أبي !

 فلما أفضت الخلافة للمنصور تعجب من قول الباقر([3]).

وقصّة الإمام الجواد (عليه السلام) وهو في سن العاشرة أو دون، حين كان المأمون خارجًا للصيد فأرسل صقره على دراجة([4])، وإذا به يغيب ثم يعود وهو يحمل بمنقاره سمكة صغيرة.. فتعجب من ذلك غاية العجب، ولما رجع مرّ بصبيةٍ وفيهم محمّدٌ ففرّوا إلا محمدًا، فدنا منه وقال: ما في يدي؟

فقال الجواد (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى خَلقَ في بحر قدرته سمكًا صغارًا يصيدها بازات الملوك والخلفاء، فيُختبر بها سلالةُ أهل بيت المصطفى!...)([5]).

وإخبارهم بالمغيبات مذكورة في كتب العامة والخاصة، وهو ما يعبّر عنه لدى العامة بالمكاشفات، وما ذكرناه هو عيّنة للتذكير فقط.

الإمام الحسين (عليه السلام)

أخبر عن شهادته في مواضع عدة.. كما أخبر عن مصير غيره

وهنا نضع أمام القارئ الكريم بعضا من النصوص التي تصرح بعلمه (عليه السلام) أنه سائر نحو الشهادة.

1- قال (عليه السلام) لأخيه محمد بن الحنفية حين أشار عليه بتجنب أماكن سطوة بني أمية والذهاب إلى اليمن..في خبر طويل..

(أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن فارقتك فقال: يا حسين اخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا!! ولما سأله عن حمله النسوة معه؟ أجابه: قد قال لي إن الله قد شاء أن يراهن سبايا([6]).

2- قال عليه السلام في معرض ردّه على ابن الزبير حين أشار عليه بالبقاء في المسجد الحرام في مكة:

(والله لئن أُقتل خارجا منها بشبرٍ أحبُّ إلي أن أُقتل داخلا منها بشبر، وأيمُ الله لو كنت في جُحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني منها، والله ليعتدُنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت)([7]).

3- وحين قال له أخوه عُمر الأطرف: حدثني أخوك أبو محمد، عن أبيه، ثم بكى حتى علا شهيقه، فضمّه الحسين إليه وقال: حدثك أني مقتول. قال: حوشيت يا ابن رسول الله. فقال: بحقّ أبيك بقتلي خبّرك؟ قال: نعم، فلو بايعت. فقال عليه السلام:

حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بقتله وقتلي، وأن تُربتي تكون بقرب تربته، أتظن أنك علمتَ ما لم أعلم [8]؟

4- وقال (عليه السلام) في جوابه لعبد الله بن عمر:

 أما تعلم يا عبد الله أن من هوان الدنيا على الله أن رأس يحي بن زكريا يُهدى إلى بغيّةٍ من بغايا بني إسرائيل والرأسُ ينطق بالحجة عليهم([9]).

5- جوابه لأم سَلَمه إذ قالت له : يا بني لا تُحزنّي بخروجك إلى العراق فإني سمعت جدّك (صلى الله عليه وآله) يقول: يُقتل ولدي الحسين بأرض يقال لها كربلاء. فقال لها:

 يا أمّاه وأنا والله أعلم ذلك، وأني مقتول لا محالة، وليس لي منه بُدّ، وقد شاء الله أن يراني مقتولاً، ويرى حُرمي مشردين وأطفالي مذبوحين....([10]).

6- خطبته ليلة خروجه من مكة: كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء إلى أن قال:

 ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته، موطّنًا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحلٌ مصبحًا إن شاء الله تعالى([11]).

 7- قوله (عليه السلام): لولا تقارب الأشياء، وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكني أعلم يقينًا أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي، لا ينجو منهم إلا ولدي علي([12]).

8- قوله: والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يُذلُّهم حتى يكونوا أذل من فرام المرأة([13]).

9- قوله لأبي هرة "الأزدي" - كما في تاريخ ابن جرير وغيره -: أيْمُ الله لتقتُلُني الفئة الباغية وليُلبسنّهم الله ذلاً شاملا وسيفا قاطعا، وليُسلطّن الله عليهم من يُذلهم..([14]).

10- روى جعفر بن سليمان قال: حدثني يزيد الركسي قال: حدثني من شافه الحسين (رض) بهذا الكلام قال: حججت فأخذت ناحية من الطريق أتعسف الطريق، فدُفعت الى أبنية وأخبية فأتيت أدناها فسطاطا فقلت: لمن هذه الأخبية؟ فقالوا للحسين بن علي، فقلت ابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالوا: نعم قلت في أيّها هو؟ فأشاروا إلى فسطاط فأتيت الفسطاط فإذا هو قاعد عند عمود الفسطاط، وإذا بين يديه كتبٌ كثيرةٌ يقرأها فسلمت عليه فقلت: بأبي أنت وأمي ما أجلسك في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا منفعة؟ قال: إن هؤلاء (يعني بني أمية) أخافوني وهذه كتب أهل الكوفة إليّ وهم قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يتركوا لله حرمة إلا انتهكوها، فيسلّط الله عليهم من يُذلُّهم، حتى يتركهم أذلّ من قرم الأمَة([15]).

11- رؤياه التي رآها لما ارتحل من قصر بني مقاتل - كما في تاريخ الطبري وغيره - فقال حين انتبه: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله رب العالمين - مرتين أو ثلاثًا، فأقبل عليه ابنه علي فقال: يا أبتاه، جُعلت فداك مِمّا حمدت الله واسترجعت؟ فقال: يا بنيّ، خفقتُ برأسي فعنّ لي فارسٌ، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسيرُ إليهم، فعلمتُ أنها أنفسنا نُعيت إلينا، فقال: يا أبتِ لا أراك الله سوءًا، ألسنا على الحق؟ قال: بلى، والذي إليه مرجع العباد، قال: إذًا لا نبالي نموت محقين ! فقال له: جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدًا عن والده([16]).

12- عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال الحسين بن علي عليهما السلام لأصحابه قبل أن يُقتل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يا بني إنك ستساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيّون، وأوصياء النبيين، وهي أرض تُدعى " عمورا " وإنك تستشهد بها ويستشهد معك جماعةٌ من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: (قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم )([17]).

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - نهج البلاغة، محمد عبده، دار المعرفة، بيروت: 1/182، خطبة رقم 39، وإنما ذكرت الفقرات الخارجة عن البحث لانطوائها على بيان الصورة التي وصل إليها المسلمون.

[2] - شرح النهج، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية: م7، من ص44 إلى ص50.

[3] - الصواعق المحرقة:ص202.

[4] - نوع من الطيور.

[5] - نفس المصدر ص206.

[6] - اللهوف في قتلى الطفوف، لابن طاووس، ط 1417هـ: ص40، وفيه إشارة إلى رأسه الشريف حيث تكلم في عدة مواضع، كما هو المشهور.

[7] - تاريخ الطبري،مؤسسة الأعلمي، بيروت: م5 ص385.

[8] - اللهوف في قتلى الطفوف: ص19-20

[9] - الفتوح، لابن أعثم،: ج5 /25

[10] - مقتل الحسين، المقرم،: ص 136، نقلاً عن مدينة المعاجز وكتاب الخرايج.

[11] - شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، مؤسسة النشر الإسلامي،: ج3 ص146.

[12] - اللهوف في قتلى الطفوف: 39.

[13] - مقتل أبي مخنف: ص66، فرام المرأة: الخرقة التي تتحفظ بها من الحيض.

[14] - مثير الأحزان، ابن نما المتوفى سنة 645، الحيدرية، النجف، 1369هـ: ص33 وفي اللهوف كذلك.

[15] - نظم الدرر للحنفي:  ص214.

[16] - مقتل الحسين، أبي مخنف، قم، 1398هـ: ص92

[17] - الخرايج والجرايح، قطب الدين الرواندي، مؤسسة الإمام المهدي، قم: ج2/848.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية