إن هذه النصوص فيها صراحة كافية على ما نقول، ولكن
يبقى السؤال:
من
أين جاءه هذا العلم؟
وللجواب على
هذا السؤال فرضيتان لا ثالث لهما، وكلاهما يعطياننا الجزم
بعلمه صلوات الله وسلامه عليه بأنه ماض نحو الشهادة.
الفرضية
الأولى:
العلم المفاض عليه من الله سبحانه وتعالى تأييدًا لوصايته
وإمامته على الناس، وقد صح بل اشتهر الحديث عنه (صلى الله
عليه وآله) فيه وفي أخيه الحسن (عليه السلام): (الحسن
والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)([1]).
الفرضية
الثانية:
أن النبي(صلى الله عليه وآله) أخبره بذلك كما أخبر غيره من
المسلمين.
إخبار الرسول الأعظم له بالشهادة
فقد ورد في
أمهات كتب الحديث لدى الفريقين أن النبي (صلى الله عليه
وآله) أخبر عن استشهاد سبطه الحسين (عليه السلام) في أرض
يقال لها كربلاء، وهو ما تضمّنه الحديث المشهور المروي عن
أم سلمة وعائشة وغيرهما.
فعن أم
سلمه،
قالت: كان جبرائيل عند النبي صلى الله عليه وسلم والحسين
معي، فبكى، فتركته، فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال جبرائيل: أتحبه يا محمد؟ قال: نعم. قال: إن أمّتك
ستقتله. وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يُقتل بها.
فأراه فإذا الأرض يقال لها كربلاء.
وعن أم سلمة
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ذات يوم في
بيتي، قال لا يدخل على أحد، فانتظرت" فدخل الحسين، فسمعت
نشيج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، فأطللت فإذا
حسينٌ في حجره والنبي صلى الله عليه وسلم يمسح جبينه وهو
يبكي، فقلت والله ما علمت حين دخل فقال.. الحديث.
وعن
عائشة
قالت: فلما ذهب جبريل عليه السلام من عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزمه
في يده يبكي، فقال يا عائشة إن جبريل أخبرني أن ابني حسينٌ
مقتولٌ في أرض الطف وان أمتي ستُفتنُ بعدي، ثم خرج إلى
أصحابه فيهم عليٌّ وأبو بكرٍ وعمرُ وحذيفةُ وعمّارٌ وأبو
ذرٍ رضي الله عنهم وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول
الله؟ فقال: أخبرني جبريل عليه السلام أن ابني الحسين
يُقتلُ بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التُربة وأخبرني أن
فيها مضجعه. (رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار
كثير، وأوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس حسينا
على فخذه فجاءه جبريل.).
وفي حديث
آخر: إن جبريل أخبرني أن ابني هذا يُقتل، وأنه اشتدّ غضبُ
الله على من يقتُله.
( ابن
عساكر عن أم سلمه ): إن جبريل أراني التربة التي يُقتل
عليها الحسين، فاشتدّ غضب الله على من يسفك دمه، فيا
عائشة؟ والذي نفسي بيده إنه ليحزنني هذا من أمتي، تقتل
حسينًا بعدي..!!
(عن عائشة
): إن جبريل أتاني وأخبرني أن ابني هذا تقتله أمتي
فقلت: فأرني تربته؟، فأتاني بتربة حمراء.
وعن عائشة
أو أم سلمة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإحداهما لقد
دخل عليّ البيت ملَكٌ، لم يدخل عليّ قبلها، قال: إن ابنك
هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتُك من تربة الأرض التي يُقتل
بها، قال: فأخرج تربة حمراء. رواه أحمد، ورجاله رجال
الصحيح([2]).
وعن أنس بن
الحارث عن أشعث بن سحيم عن أبيه عنه انه سمع النبي
صلى الله عليه وسلم يقول إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض
العراق فمن أدركه فلينصره فقتل مع الحسين رضي الله عنه([3]).
عن ابن
عباس، عنه (صلى الله عليه وآله):
أوحى الله إليّ أني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وأني
قاتلٌ بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا([4]).
نجى الحضرمي
عنه: أنه
سار مع علي رضي الله عنه، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى
نينوى وهو منطلقٌ إلى صفين فنادى عليٌّ: اصبر أبا عبدالله
اصبر أبا عبدالله بشط الفرات قلت: وما ذاك قال: دخلت على
النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وإذا عيناه تذرفان! قلت
يا نبي الله أغضبك أحدٌ؟ ما شأن عينيك تفيضان؟؟ قال (صلى
الله عليه وآله) بل قام من عندي جبريل عليه السلام قبل
قليل فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات، قال فقال: هل لك
أن أشمّك من تربته؟ قلت: نعم, قال: فمدّ يده فقبض قبضةً من
تراب فأعطانيها فلم أملك عينيَّ أن فاضتا([5]).
إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام)
عن شيبان بن
محزم قال: إني لمع عليّ إذ أتى كربلاء فقال: يقتل في هذا
الموضع شهداء ليس مثلهم شهداءٌ إلا شهداءُ بدر([6]).
عن هرثمة
بن سليم، قال: غزونا مع علي (عليه السلام) صفين، فلما نزل
بكربلاء صلى بنا، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمّها، ثم
قال: واهًا لك يا تربة! ليحشرُنّ منك قومٌ يدخلون الجنة
بغير حساب. قال: فلما رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته جرداء
بنت سمير - وكانت من شيعة علي عليه السلام - حدّثها هرثمة
فيما حدّث فقال لها: ألا أعجبك من صديقك أبي حسن (واهًا
لك أيتها التربة) قال: لما نزلنا كربلاء، وقد أخذ حفنة
من تربتها فشمّها، وقال: (واهًا لك أيتها التربة !
ليُحشرنّ منك قومٌ يدخلون الجنة بغير حساب):
وما عِلمه بالغيب؟ فقالت المرأة له: دعنا منك أيها الرجل،
فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يقل إلا حقًّا.
قال: فلما
بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين (عليه
السلام)، كنت في الخيل التي بعث إليهم، فلما انتهيت إلى
الحسين (عليه السلام) وأصحابه، عرفت المنزل الذي نزلنا فيه
مع علي (عليه السلام)، والبقعة التي رفع إليه من تربتها
والقول الذي قاله، فكرهت مسيري، فأقبلت على فرسي حتى وقفت
على الحسين عليه السلام فسلمت عليه، وحدثته بالذي سمعت من
أبيه في هذا المنزل، فقال الحسين: أمعنا أم علينا؟ فقلت:
يا بن رسول الله، لا معك ولا عليك، تركت ولْدي وعيالي أخاف
عليهم من ابن زياد، فقال الحسين عليه السلام: فولّ هربًا
حتى لا ترى مَقْتَلنا، فو الذي نفسُ حسينٍ بيده لا يَرى
اليوم مقتلنا أحدٌ ثم لا يُعيننا إلا دخل النار. قال:
فأقبلت في الأرض أشتدُّ هربًا، حتى خفي عليّ مقتلُهم([7]).
عبد الله بن عمر
حين أشار
عليه بعدم الخروج...قال: فإني قد سمعت رسول الله وهو يقول
(حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلُهم
الله إلى يوم القيامة..)([8]).
ابن عباس
فقال أبن
عباس
-وكان مع ابن عمر_صدقت أبا عبدالله، قال النبي في حياته
(مالي وليزيد، لا بارك الله في يزيد وإنه يقتل ولدي وولد
ابنتي الحسين، والذي نفسي بيده لا يُقتل ولدي بين ظهرانيّ
قوم فلا يمنعونه إلا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم)([9]).
أشعث بن سُحيم
عن أبيه عنه
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن ابني هذا
يُقتل بأرض من أرض العراق فمن أدركه فلينصره، فقتل مع
الحسين رضي الله عنه([10]).
وكما ترى
فإن الروايات تؤكد أن الحسين (عليه السلام) علم بأنه
سيستشهد، علم ذلك عن جده (صلى الله عليه وآله) كما علمه
بالعلم المفاض منه سبحانه وتعالى فهو الإمام المفترض
الطاعة على حدّ تعبير النبي (صلى الله عليه وآله)
(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) حكما أم لم
يحكما، أطاعهما الناس أم خالفوهما، سيّان عند الله تعالى،
فإنا لا نعهد أن أحدًا من الأنبياء والأوصياء استتبّتْ له
الأمور إلا ما ندر، كداود وسليمان وذي القرنين ونبينا محمد
(صلى الله عليه وآله)، وأما الباقون من سلسلة الأنبياء
صلوات الله عليهم، فهم بين مقتول ومصلوب ومشرّد ومحارب،
ولم يخدش ذلك في مقامهم عند الله تعالى، ولا في نبوّتهم،
كذلك أوصياء الأنبياء، والأولياء بعد الأوصياء([11]).
ومجمل
القول:
أن الحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنه سوف يستشهد، ولم
يمنعه علمه هذا عن متابعة مسيرته، إذ إن المقدمات العادية
كلها كانت تامة فلقد استصرخته شريعة الله بعد أن عمد بنو
أمية ومن لفّ لفّهم إلى حرفها عن مسارها الذي رسمه الباري
سبحانه بما أوحاه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله) ورقمه في
كتابه العزيز، واستصرخه المسلمون فبعثوا إليه باثني عشر
ألف كتاب من الواحد والاثنين والثلاثة، ولو كان مسلمًا
عاديًا لأجاب إلى الجهاد؛ كيف وهو من رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ورسول الله منه (حسينٌ مني وأنا من حسين)([12]).
نعم، إن
الحسين (عليه السلام) يحمل ذاتًا قدسية تذوب في ذات الله
عزّ وجلّ فتهون عندها نفسه وكل ما تحت يده، وهذا ما كشفته
أحداث واقعة الطف، ومهما يكن فإن جده إسماعيل (عليه
السلام) قبله كان قد أسلم نفسه للذبح، والحسين (عليه
السلام) ليس أقلّ خطرًا ولا منزلة منه، فإنه حين ضعف عن
القتال وسقط إلى الأرض، صنع لنفسه وسادة من الرمل، وجعل
وهو يسمع بين الحين والحين صراخ الأطفال وبكائهم، وأنين
النساء الثكلى وشكواهن، وبين تيْن وتيْن يحسّ مرارة اللؤم
التي تَنْطِف بها أحقادُ أولئك الشُذّاذ من قَتَلة أولاد
الأنبياء، يرى ويسمع كل ذلك، فيحتسبه بعين الله تعالى،
ويرمق السماء بطرفه مليًّا وقد تهدّلت على شفتيه الذابلتين
من شدة الظمأ كلماتٌ ناجى بها ربه مُسلِمًا إليه أمره، غير
آبهٍ بجراحاته ولا بآلامه، فيقول:
اللهُّم
خُذْ لنفسكَ الرِضا منْ نفسي حتى تَرضى.
{أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن
فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}([13]).
انتهى
المقال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- شرح الأزهار، أحمد المرتضى، غمضان، صنعاء:
4/522.
[2]
- هذه الرواية وردت في أمهات كتب المسلمين مع
اختلاف بسيط في النص، فقد جاءت في أكثر من 25
كتابًا من أمهات كتب أحاديث أهل السنة:
منها: تهذيب الكمال: 3/152 ؛ منتخب مسند عبد بن
حميد ؛ تهذيب الكمال ؛ المعجم الكبير ؛ المعجم
الأوسط ؛ صحيح بن حبان ؛ تأريخ دمشق ؛ فيض القدير
؛ مسند أبي جامع إلخ ؛ ومن أراد فليراجع المعجم
الفقهي الكمبيوتري الإصدار الثالث.
[3]
- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، دار الفكر: 14/223
- 224، وهذا الحديث مثبت في كثير من كتب الحديث.
[4]
- روي هذا الحديث في تفسير القرطبي ؛ وفيض القدير
؛ والدر المنثور ؛ وتهذيب التهذيب ؛ وغيرها مما لا
يسعنا ذكره. قال عنه الذهبي: حديثٌ نظيف الإسناد.
[5]
- مسند أحمد، دار صادر، بيروت: 1/85.
[6]
- كنز العمال، المتقي الهندي، مؤسسة الرسالة،
بيروت: 12/655.
[7]
- وقعة صفين لابن مزاحم المنقري، المؤسسة العربية
الحديثة، الطبعة الثانية: ص 140-141.
[8]
- الفتوح، لابن أعثم: 5/24.
[9]
- نفس المصدر والصفحة.
[10]
- أسد الغابة، إسماعيليان، قم: 1/123.
[11]
- وأثناء بحثي هذا لفت نظري أمران:
الأول: أن الناس كانوا ينتظرون وقوع هذا الحدث
العظيم، كما ذكر ذلك الطبري في تاريخه، قال: (وكان
أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر وينتظرونه في كل
يوم وليلة).
الثاني: نظرة الناس العامة إلى رفعة ومكانة الإمام
الحسين وجعله في مصاف الأنبياء كما يظهر ذلك من
الحوار الذي جرى بين الفرزدق وعبد الله بن عمرو بن
العاص، وكان الفرزدق قد أخبره بلقائه مع الحسين
(عليه السلام) يقول:
فقال لي ويلك، هلا اتبعته!( يعني الحسين(عليه
السلام)) فوالله ليملكن ؛ ولا يجوز السلاح فيه ولا
في أصحابه.قال: فهممت والله أن ألحق به، ووقع في
قلبي مقالته،..ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدّني
ذلك عن اللحاق بهم.
إنني أرجو من القارئ الكريم أن يقف مليا عند هذا
النص العفوي الذي جاء على لسان الفرزدق!!
[12]
- حديث مشهور مثبت في كتب الفريقين.
[13]
- سورة النساء الآية 54.
|