العدد الرابع/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

 تتمة مقال = وفاء العباس(ع)

 

وفاء العباس (عليه السلام):

يمثّل العباس (عليه السلام) بحرًا من الصفات والفضائل لا تنفك عنه ولا ينفك عنها، فكأنّ العباس (عليه السلام) كتلة من فضائل متحرّكة كلما أردت أن تغلّب واحدة على أخرى برزت لك الثالثة لتقول أنا به أولى.

لقد اشتمل العباس (عليه السلام) بالوفاء، واشتمل به الوفاء..

وتسربل بالإيثار، وتسربل به الإيثار..

وتخندق بالشجاعة، وتخندقت به الشجاعة..

لقد مثّل كل الفضائل، فتمثّلت فيه كل الفضائل..

إن سطرًا واحدًا من الزيارة التي رواها أبو حمزة الثمالي عن الصادق (عليه السلام) اشتمل على أربع صفات لو جمعها الإنسان لكسب سعادة الدارين، وذلك هو الفوز العظيم.. فكيف بك إذا أردت الوقوف على بقيّة صفاته صلوات الله وسلامه عليه.

يقول الإمام عليه السلام: (أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخَلَف النبي المرسل..)..

التسليم.. التصديق.. الوفاء.. النصيحة..

هذه أروع الصفات، حيث جمعت خير فضائل الإنسانية، ولا نستطيع التفكيك بينها.. والقاسم المشترك بين هذه الصفات هو "الوفاء".

فالتسليم بالأمر، سواء كان للمعبود تبارك وتعالى أو للرسول (صلى الله عليه وآله) أو للإمام (عليه السلام) لا يمكن أن يتم من دون صفة الوفاء.. وهذا هو معنى الوفاء للدين.

إطاعة الله ورسوله وأولي الأمر هي فرع الوفاء لدين وشرع الله تبارك وتعالى.

ولهذا فإننا نصف المجاهد في سبيل الله بأنه كان وفيًّا لدينه.

ومن نفس المنطلق نقول بأن "العهد" و"الوعد" و"الأمانة" لا مصداقيّة لها في العُرف العام والخاص من دون أن يتحلّى "المعاهد" و"الواعد" و"الأمين" بصفة الوفاء.

ومن هنا أيضًا يصف الله تعالى رجال الحق بأنهم {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}([1]) أي وفّوا بعهدهم، فهم أصحاب وفاء لعهودهم أي رجال أوفياء.

ونفس الأمر ينسحب على بقية الصفات من التسليم والتصديق والنصيحة وغيرها من الصفات..

إذًا القاسم المشترك للفضائل جميعًا هو الوفاء..

لقد ضرب أبو الفضل العباس (عليه السلام) أروع الأمثلة لكيفيّة الوفاء وأعطى صورة واضحة وناصعة لمصداق الوفاء في أعلى مراتبه .

وبعبارة أخرى لقد بلغ أقصى الجهد في تحقيق هذه الصفة المباركة.. الوفاء لدين الله بكل مراتبه التي يعجز عنها العظماء من الرجال.

مواقف العباس (عليه السلام) في نصوص كربلاء

وقاسمها المشترك "الوفاء"

نعود إلى نصوص كربلاء من جديد لنسرد واقع وفاء العباس (عليه السلام) في مختلف المواقف التي وقفها مع الحسين (عليه السلام) وأصحاب الحسين والنساء والأطفال من آل بيت النبوة، ولا داعي للتعليق على هذه النصوص فهي غنية عن التعليق، اللهم سوى بعض الملاحظات التي لا بد منها.. وكما سبق أن قلنا فإن مجموع هذه المواقف تنضوي تحت قاسم مشترك واحد ألا وهو الوفاء لدين الله تعالى ولرسوله ولخليفة رسوله صلوات الله عليهم أجمعين.

عند الدخول إلى نصوص كربلاء، نجد أنّ أوّل نصّ يتحدّث عن العباس (عليه السلام) في كربلاء هو النص الذي يحدّثنا عن كتاب أمان كتبه ابن زياد للعبّاس (عليه السلام)، ورد النص في كتاب "إبصار العين" كما يلي:

"لمّا كاتب عمر بن سعد عبيد الله بن زياد في أمر الحسين عليه السلام وكتب إليه على يدي شمر بن ذي الجوشن بمنازلة الحسين عليه السلام ونزوله، أو بعزله وتولية شمر العمل، قام عبد الله بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر الوحيد، وكانت عمّته "أم البنين"، فطلب من عبيد الله كتابًا بأمان العبّاس وإخوته، وقام معه شمر في ذلك فكتب أمانًا وأعطاه لعبد الله"([2]).

قبل استكمال النص لا بد من الوقوف عند رضوخ ابن زياد وموافقته على كتابة كتاب الأمان للعباس (عليه السلام) وإخوته، فهل كتب ابن زياد هذا الكتاب لمجرّد إكرام أخوال العباس وإخوته.. أم أن هناك سببًا آخر؟!.

الذين كانوا يعرفون العباس (عليه السلام) - وابن زياد منهم بحكم علاقة أبيه بأمير المؤمنين قبل أن ينحرف زياد - كانوا حريصين تمام الحرص على فصل العباس عن الإمام الحسين نظرًا للشجاعة التي يتميّز بها أبو الفضل (عليه السلام) ممّا يُعتبر توجيه ضربة كبيرة لمعسكر الحسين (عليه السلام).

ويتابع النص:

"أرسل عبد الله بن أبي المحلّ بالكتاب مع مولى له يقال له "كزمان"، فأتى به إليهم، فلمّا قرأوه قالوا له: أبلغ خالنا السلام وقل له أن لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سميّة، فرجع"([3]).

إن معرفتنا بعظمة العباس ووفائه للإمام الحسين (عليه السلام) تجعلنا نرى أن من الطبيعي أن يرفض الأمان.. ولكن معرفتنا أيضًا بالجوّ الذي كان فيه العباس وإخوته يجعلنا ندرك أبعاد وفائه وعظمته، فما يجب أن نقف عنده هو جوّ الجواب ودلالاته والمخزون الإيماني الذي يمكن أن يُستوحى من كلام أبي الفضل وإخوته.

ولدينا نص آخر حول "كتاب الأمان"، وهو نص مشهور، وشهرته أكبر من النص السابق، أورده السيد عبد الرزاق المقرّم في "مقتله"([4])، ونجد فيه أن الشمر خاطب العباس وإخوته في اليوم العاشر من محرم، وفي رواية أخرى في اليوم التاسع.. يقول النص:

"ووقف الشمر ناحية ونادى أين بنو أختنا أين العباس وأخوته؟ فأعرضوا عنه فقال الحسين عليه السلام: أجيبوه ولو كان فاسقًا، فأجابوه وقالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد، فقال العباس: لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء"([5]).

وإنما قال الشمر ما قال، لأن جدّ أم البنين وجدّ الشمر إخوة، وهي قرابة بعيدة، وهو يروم من وراء ذلك إضعاف معسكر الحسين (عليه السلام) كما تقدّم.

ظنّ الشمر أن أهل البيت (عليهم السلام) إذا وضعوا بين السِلّة والذلة فإنهم سيختارون الذلّة.. ولعلّ مثل هذا العرض يغري ضعاف النفوس أمثاله.. ولكنّ العباس الذي آمن برسول الله والنور الذي أُنزل معه، ذي المعدن الأصيل.. كان منزعجًا جدًا، ليس من العرض نفسه فحسب، بل لأنه لا يزال لأولئك العتاة الأمل في أن يقبل العباس منهم الدخول في طاعة يزيد عبر التهديد له بالموت.

إن العباس هو سليل عليّ بن أبي طالب الذي كان يقول: "والله.. لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه".. 

إن العباس هو عم علي الأكبر الذي كان يقول: (ألسنا على الحق؟.. إذًا لا نبالي)([6]).

لم يكن الموت بأي شكل من الأشكال يخيف أمثال العباس وإخوته، ولكن الشمر وأضرابه من أشباه الرجال يقيسون الناس بموازينهم هم، فصاحب الإيمان يرى الناس من خلال صفاته الشخصيّة، ويزن أعمالهم على الطراز الذي يودّ منهم أن يزنوا أعمالهم على منواله، وأما المنافق فإنه يزن الآخرين من خلال نفسه المريضة ويظن أنهم مثله، مستعدّون لبيع آخرتهم بدنيا دنيّة لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل - حسب تعبير الإمام الحسين عليه السلام -.

لقد كان جواب العباس (عليه السلام): (أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟؟)([7])..

كل شيء بالنسبة للعباس مرتبط بالحسين (عليه السلام).. هذه هي وحدة المصير.. ووحدة الهدف والرؤيا.. وهذا هو الوفاء للدّين الذي يجسّده العباس (عليه السلام) في كل موقف من مواقفه الكثيرة في تاريخ حياته الحافل بالمجد والبطولات.

ونعود مرة أخرى إلى نصوص كربلاء... فنجد نصًا يتحدث عن أمر الحسين (عليه السلام) للعباس بجلب الماء قبل اليوم العاشر من المحرّم، يقول النص كما أورده السيد المقرّم في " مقتله":

"لمّا مُنع الحسين عليه السلام وأصحابه من الماء وذلك قبل أن يجمع على الحرب، اشتدّ بالحسين وأصحابه العطش، فدعا أخاه العباس فبعثه في ثلاثين فارسًا وعشرين راجلاً ليلاً، فجاؤوا حتى دنوا من الماء، وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء فصاح عمرو بن الحجاج: مَن الرجل؟.. قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي منعتمونا عنه، فقال: اشرب هنيئًا ولا تحمل إلى الحسين منه. قال نافع: لا والله لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى، وصاح نافع بأصحابه: املأوا أسقيتكم، فشدّ عليهم أصحاب ابن الحجاج، فكان بعض القوم يملأ القِرَب وبعض يقاتل.. وحاميهم "العباس عليه السلام"، فجاؤوا بالماء وليس أحد من أعدائهم تحدّثه نفسه بالدنو منهم فَرَقًا من ذلك البطل المغوار، فبلّت غلّة الحرائر والصبية من ذلك الماء"([8]).

وهناك نص أورده صاحب "ابصار العين" قال:

"وكان العباس ربما رَكَزَ لواءه أَمَام الحسين عليه السلام وحامى عن أصحابه، أو استقى ماءً فكان يلقّب بالسقّاء"([9]).

وكذلك نجد حديث أبي الفضل العباس (عليه السلام) في نص يتحدّث عن اليوم التاسع من المحرّم، يقول النص:

"كان الحسين عليه السلام جالسًا أمام خيمته محتبيًا بسيفه وخفق برأسه فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: إنك صائر إلينا عن قريب، وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها: قد اقترب العدو منّا، فقال لأخيه العباس: اركب بنفسي أنت حتى تلقاهم واسألهم عما جاءهم وما الذي يريدون، فركب العباس في عشرين فارسًا، منهم زهير وحبيب، وسألهم عن ذلك، قالوا: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو ننازلكم الحرب"([10]) .

وقبل الدخول إلى النص الأخير نتوقف عند ملاحظة حول منزلة العباس ووفائه من خلال سياق هذه النصوص.

فنقرأ في الأولى: (فكان بعض القوم يملأ القِرَب وبعض يقاتل.. وحاميهم "العباس عليه السلام").

وفي الثانية: (وحامى عن أصحابه، أو استقى ماءً).

وفي الثالثة: (فركب العباس في عشرين فارسًا منهم زهير وحبيب).

الأصحاب يستقون الماء والعباس حاميهم.. وهو حامي العيال والأطفال أيضًا..

والعباس يستقي الماء وحده..

والعباس يُنتدب من قبل الحسين في مهمات عاجلة ويكون في ركبه زهير بن القين وحبيب بن مظاهر على جلالة قدرهما وعلو شأنهما عند الحسين عليه السلام..

كل ذلك يدل على أن العباس كان رجل المَهمّات.. مع إدراك جميع أصحاب الحسين عليه السلام لقدرات ومكانة وعظمة وسمو شأن العباس عليه السلام.

ولن نتعرّض لقول الإمام (عليه السلام) للعباس: (بنفسي أنت).. فهذه الكلمة بحاجة لبحث مستقل..

يتبع = 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - الأحزاب من الآية 23.

[2] - إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، السماوي، ط1، 1419 هـ: ص 58.

[3] - نفس المصدر السابق.

[4] - حاشية: مقتل الحسين عليه السلام للمقرم: ص 209

[5] - الإمام الحسين عليه السلام للشاكري: ص66-67، نقله عن ابن نما، ص: 28 ؛ إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، السماوي، ط1، 1419 هـ: ص58-59، نقله عن تاريخ الطبري: 3/313.

[6] - مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني، المكتبة الحيدرية، النجف: ص74.

[7] - الإرشاد، الشيخ المفيد، دار المفيد، تحقيق مؤسسة آل البيت: 2/89 ؛ تاريخ الطبري، مؤسسة الأعلمي، بيروت: 4/315 ؛ وغيرهما.

[8] - إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام) السماوي، ط1، 1419 هـ: ص58، نقله عن تاريخ الطبري: 3/312، بتفاوت وسقط في العبارة.

[9] - إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام) السماوي، ط1، 1419 هـ: ص60- 61.

[10]- الإمام الحسين عليه السلام للشاكري: ص70، نقله عن الطبري: 6/37 ؛ روضة الواعظين: ص157 ؛ البداية لابن كثير: 8/176 ؛ الإرشاد للمفيد.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية