العدد الرابع/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = وفاء العباس (ع)

إن خير ما يدل على ما كان عليه العباس وأصحاب الحسين عليه السلام هو ما قاله الإمام نفسه عنهم، حيث ورد النص أن الحسين جمع أصحابه ليلة العاشر وخطب فيهم خطبة أقل ما نقوله فيها بأنها كانت أوسمة علّقها على صدورهم قبل مضيّهم إلى ربهم بليلة واحدة حيث قال سلام الله عليه:

(أما بعد، فإني لا أعلم أصحابًا أولى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي جميعًا خير الجزاء...)([1]).

والله إنها لمفخرة تاريخية رائعة لأصحاب وأهل بيت الحسين (عليه السلام) أن يشهد الإمام لهم هذه الشهادة التي ستبقى وسامًا معلّقًا على صدورهم مدى الدهر وعلى مر الأيام والعصور..

بقي لدينا النص الذي يلخّص وفاء وإيثار وإخلاص أبي الفضل (صلوات الله عليه)..

قمة الوفاء في استشهاده (عليه السلام):

تختلف المصادر في تحديد مقدمات شهادة أبي الفضل (عليه السلام).. وهنا سنعتمد على ما هو المشهور من الروايات التي تفصّل كيفيّة استشهاده فنقول:

(بعد استشهاد إخوته جاء العباس إلى الحسين (عليه السلام) واستأذنه في القتال، فقال له الحسين (عليه السلام): أنت حامل لوائي. فقال: لقد ضاق صدري، وسئمت الحياة.. فقال له الحسين عليه السلام: إن عزمتَ فاستسقِ لنا ماءً)([2]).

أنت حامل لوائي([3]):

مسألة حمل الراية أو اللواء ليست مسألة عادية.. فمنذ القِدَم والراية تحمل معنىً رمزيًا عظيمًا في قانون الدول والثورات والحروب، ولذلك فإن العَلَم له احترامه الخاص حيث يؤدي له رئيس الدولة التحية.. وكذلك الأمر في رفض العلم وتمزيقه أو إحراقه الذي يدل على رفض الدولة وسلطتها من قبل القائمين بذلك العمل..

وبمقدار ما للراية من قيمة، فإن لحاملها مكانة عظمى، إذ لا تُعطى الراية إلاّ للشجعان الأوفياء، وقد قال الإمام علي عليه السلام في أيام صفّين:

(لا تميلوا براياتكم، ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلاّ مع شجعانكم، فإن المانع للذّمار، والصابر عند نزول الحقائق أهل الحِفَاظ.. اعلموا أن أهل الحفاظ هم الذين يحتفون براياتهم، ويكتنفونها ويصيرون حفافيها، وورائها، ولا يضيعونها ولا يتأخرون عنها فيسلمونها ولا يتقدمون عنها فيفردوها)([4]).

وعقد رسول الله صلى الله عليه وآله أول راياته بيد حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة..

وأعطى النبي صلى الله عليه وآله الراية لأمير المؤمنين عليه السلام في فتح خيبر حيث قال: (لأعطيّن الراية غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله..)([5])..

قال أبو البختري القرشيّ: كانت راية قريش ولواؤها جميعاً بيد قصيّ ابن كلاب، ثمّ لم تزل الراية في يد ولد عبد المطّلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فصارت راية قريش وغير ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأقرّها في بني هاشم، وأعطاها علي بن أبي طالب في غزوة ودّان، وهي أوّل غزوة حمل فيها راية في الإسلام مع النبيّ، ثمّ لم تزل معه في المشاهد: ببدر وهي البطشة الكبرى، وفي يوم اُحد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار فأعطاها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مصعب بن عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده، فتشوّفته القبائل، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودفعه إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ فجمع له الراية واللواء، فهما إلى اليوم في بني هاشم([6]).

إن الراية هي عقدُ نظام العسكر وآية زحفهم، وما دامت مرفوعة فإنها تعني إشارة الظّفر وعلامة الفوز، أما إذا نكّست أو سقطت فإنها تعني الهزيمة، ولذلك تُعطى الراية للأكفّاء الغيارى ممّن لا يبخسه الخور، ولا يفشله الضعف ولا يخذله الطمع..

ولنا أن نتصوّر معنى أن يكون العباس (عليه السلام) حاملاً للواء الحسين في كربلاء..

فراية العباس يوم الطف يوم عاشوراء يوم كربلاء هي ذاتها التي عقدها الرسول (صلى الله عليه وآله) لحمزة([7])، وحملها علي (عليه السلام) في بدر، وأُحد، والخندق ([8])، ثم حملها الإمام علي في معاركه([9])، وها هي خفاقة في يد أبي الفضل (عليه السلام)..

العباس هنا في موقعه الصحيح تمامًا.. ولهذا أعطاه الحسين (عليه السلام) رايته..

ولا نريد الاسترسال أكثر فإن الكلام هنا لا تدرك غايته..

ونتابع مع النص الآنف([10]):

(فأخذ قربته وحمل على القوم حتى ملأ القربة، قالوا: واغترف من الماء غرفةً ثم ذكر عطش الحسين عليه السلام فرمى بها وقال:

يا نفس من بعد الحسين هوني
هذا الحسين وارد المنون

 

 

وبعده لا كنتِ أن تكوني
وتشربين بارد المعينِ).

 

ذكر عطش الحسين فرمى الماء من يده..

أيّ وفاء هذا للحسين (عليه السلام)؟.. ألم يكن ممكنًا للعباس أن يقول: أشرب الماء فأتقوّى به على الأعداء؟؟.. ألم يكن ؟؟ ألم يكن ؟؟..

كلا.. ليست هذه طبائع العباس (عليه السلام).. فالغاية لا تبرّر الوسيلة.. والوسائل تقوم عند العباس (عليه السلام) على الأنفة والحمية والغيرة والشجاعة والوفاء لما عاهد الله عليه.. من النصرة لسليل النبيين وحافظ دين سيّد المرسلين الإمام الحسين (عليه أفضل صلوات المصلّين)..

ويتابع النص([11]):

(ثم عاد فأُخذ عليه الطريق، فجعل يضربهم بسيفه ويقول:

لا أرهب الموت إذا الموت زقا
إنّي أنا العباس أغدو بالسِقا

 

 

حتى أُوارى في المصاليت لِقى
ولا أهاب الموت يوم الملتقَى

 

فضربه حكيم بن طفيل الطائي السنبسي على يمينه فبراها فأخذ اللواء بشماله وهو يقول:

والله إن قطعتُمُ يميني
وعن إمامٍ صادق اليقينِ

 

 

إنّي أحامي أبدًا عن ديني
نجل النبي الطاهر الأمين

 

فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها، فضمّ اللواء إلى صدره - كما فعل عمّه جعفر في مؤتة - وهو يقول:

ألا ترون معشرَ الكفّار

 

 

قد قطعوا ببغيهم يساري

 

فحمل عليه رجل تميمي من أبناء "أبان بن دارم"، فضربه بعمود على رأسه خرّ صريعا إلى الأرض، ونادى بأعلى صوته: أدركني يا أخي.. فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم مرتثًا بالجراحة، فوقف عليه منحنيًا وجلس عند رأسه يبكي حتى فاضت نفسه..)..

لقد سقط العباس شهيدًا وهو يعلم بما للشهيد من أجر عظيم عند الله.. سقط شهيدًا وصوت أخيه الحسين يتردّد في أذنيه: (فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما)([12]).

نال العباس شرف الشهادة في الله.. بعد أن فتح عينه في عين وليّ الله.. وأغلقها في عين وليّ الله..

كما عاش حياته مع أولياء الله.. فكان هو أيضًا من أولياء الله..

لقد مثّل عليه السلام كلّ الفضائل، فتمثّلت كل الفضائل فيه.. وزادت في القِيَم قيمة جديدة اسمها: (العباس).

فالسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا..

انتهى المقال


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

االهوامش

[1] - تاريخ الطبري، مؤسسة الأعلمي، بيروت: 4/317 ؛ ورواه باختلاف يسير في الإرشاد، الشيخ المفيد، دار المفيد، تحقيق مؤسسة آل البيت: 2/91.

[2] - مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي، منشورات المرعشي، قم، 1398: ص178.

[3] - الراية تُستَعمل أثناء الحرب، وتكون مع قائد المعركة. واللواء يوضع فوق معسكر الجيش علامة عليه، وكان يُعقد لأمير ذلك الجيش.

والفرق بين الراية واللواء هو أن اللواء ما يعقد في طرف الرمح، ويلوى عليه، ويقال له العَلَم، وهو أكبر من الراية. وهو علامة لمحل أمير الجيش، يدور معه حيث دار، أما الراية فتكون أصغر من اللواء، وهي ما يعقد في الرمح، ويترك حتى تصفقه الرياح، ويتولاها صاحب الحرب، وتُكْنى أُمّ الحرب.. قال العلامة المجلسي عليه الرحمة: الراية: العلم الكبير، واللواء: أصغر منها، قال في المصباح: لواء الجيش: علمه، وهو دون الراية. (بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 20/246).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث علياً عليه السلام يوم بني قريظة بالراية، وكانت سوداء تُدعى العقاب، وكان لواؤه أبيض (بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 20/246 حديث 12).

ويبدو أن الإمام الحسين (عليه السلام) جمع اللواء والراية للعباس عليه السلام كما فعل النبي (صلى الله عليه وآله) مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسيتضح ذلك فيما يأتي من البحث.

[4] - الكافي، الكليني، دار الكتب الإسلامية، ط3 : 5/39، باب ما يوصي أمير المؤمنين عند القتال ح4.

 [5] - الأمالي، الطوسي، دار الثقافة، قم، ط1: ص380.

[6] - إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، مؤسسة آل البيت، ط1: ص 373-374.

[7] - الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية: 2/105-106 في ترجمة (حمزة بن عبد المطلب).

[8] - إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي، مؤسسة آل البيت، ط1: ج1، ص376.

[9] - نفس المصدر السابق، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله جمع لأمير المؤمنين الراية واللواء معاً

[10] - مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي، منشورات المرعشي، قم، 1398: ص179.

[11] - نفس المصدر السابق.

[12] - مثير الأحزان، ابن نما، الطبعة الحيدرية، النجف، ط 1950: ص32 ؛ ترجمة الإمام الحسين، ابن عساكر، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط2: ص315.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية