كثيرًا
ما نقرأ في التاريخ،
أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد خصّ
بعض الناس ببعض الأراضي، وكان يكتب لهم بها كتابًا، ويضع
عليهم شروطًا.. فربما أثار هذا شبهة لدى بعض من قصّر
في البحث عن ظروف وملابسات هذا الأمر، وشبهتهم هي التالية:
السؤال:
ما هو المبرر لإعطاء شخص واحد هذا العطاء الكبير، وتخصيصه
بهذه المساحات الشاسعة، مع أنه كان من الممكن توزيع هذه
المساحات على مجموعة من الأفراد الذين يعانون من الحاجة
الملحّة،
وليكن منهم أصحاب الصفّة
المعروفون بالفقر، وكان (صلى الله عليه وآله) ينفق عليهم
بحسب ما يتيسر له.
وإذا كانت
هذه الأراضي قد أصبحت تحت اختيار السلطة، فذلك لا يبرر
التصرف فيها، لتكريس يسيء إلى سمعة الدين، ويسقط منطق
العدل والدين فيه، من خلال إعطاء تلك الأراضي لفئة صغيرة
قد تكون في غنى عنها، بل يجب أن يستفيد منها أكبر عدد من
الناس، وخصوصًا الفقراء منهم.
إجابة مرفوضة:
وقد حاول البعض أن يجيب:
بأن من الجائز أن تكون بعض هذه المناطق الممنوحة لم تكن
منحًا جديدًا، وإنما كان إعطاؤها لهم مجرد تأكيد لملكية
سابقة، وهذا الإقطاع معناه أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قد أقرّها
في يد صاحبها، فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يضمِّن
كتب الأمان التي يصدرها للأفراد والجماعات ما يملكون من
أراض. وقد يرد في بعض الحالات اسم زعيم القبيلة أو الوفد
وحده على رأس الوثيقة.
ولكن ليس
معنى ذلك أن كل ما يرد في الوثيقة يخصّ
ذلك الزعيم شخصيًا، بل إن سائر أفراد القبيلة تكون لهم عين
الحقوق المعطاة في الوثيقة المعنية، وما الزعيم
-
الذي ورد اسمه
-
إلا الممثل لمصالحهم([1]).
غير أننا
نقول: إن هذه الإجابة غير دقيقة، ولا تناسب الكثير من
النصوص الواردة في كتب الإقطاعات، وإذا كان أولئك الناس قد
أسلموا طواعية، فإن الشرع يحكم بأن من أسلم على أرض فهي
له. فأيّ داع للتصريح بمالكيتهم لأراضيهم؟!
على أن هذا
لو صحّ
لاقتضى أن تشمل الكتابة بذلك جميع الناس، وأن لا تختص ببعض
الناس دون بعض.
الجواب الأمثل:
والإجابة
الصحيحة على هذا السؤال تحتاج إلى الحديث في جهات عدّة،
ولو بصورة موجزة وذلك كما يلي:
الفقر الموت الأكبر:
إن الإسلام
لا يريد أن يرى الفقر يعشعش في داخل المجتمع الإنساني، لأن
الفقر ليس فضيلة، كما أن الغنى
ليس عيبًا
أو نقصًا،
بل الإسلام يريد أن يرى المجتمع طموحًا
وفاعلاً، وغنيًا
وقويًا..
ومتكافلاً ومتعاونًا
على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
فإن كان
ثمّة من فقير، فلا بد أن يكون سبب فقره ظروفًا
قاهرة، أو إتكالية وكسلاً مرفوضًا
وممقوتًا،
أو سوء تصرف، أو غير ذلك.
ولذلك جاءت
تشريعات الإسلام حاسمة في معالجة مسألة الفقر باقتلاعه من
جذوره، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الفقر
الموت الأكبر)([2]).
وعن الإمام
الصادق (عليه السلام): (كاد الفقر أن يكون كفرًا، وكاد
الحسد أن يغلب القدر)([3]).
البداوة مذمومة:
هذا.. وقد
قال تعالى على لسان يوسف (عليه السلام) مخاطبًا
أباه:
{..وَقَدْ
أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء
بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ..}([4]).
ما يعني أن
الخروج من حياة البدو كان نعمة عظيمة توازي خروجه من
السجن.
وقال تعالى
أيضًا:
{يَحْسَبُونَ
الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ
يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ
يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا
قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً}([5]).
فهو تعالى
يذمّ
هؤلاء الناس على أن الأمر قد بلغ بهم حدًا فقدوا معه
الموازين، واختلّت
فيه المعايير لديهم، بسبب حبّهم
للدنيا وزخارفها، فكانوا يهربون من الجهاد الذي هو من أشرف
الأعمال وأعظمها، لما فيه من حماية لحياة المسلمين، وحفظٍ
لعزّتهم ودولتهم، والدفاع عن منجزاتهم الحضارية، ويفضّلون
عليه أحط الخيارات وأرخصها وأتفهها، ألا وهو أن يكونوا
بادين في الأعراب، ولا يكونوا في ساحات الشرف والجهاد
والكرامة.
آثار البداوة على الإنسان العربي:
وبالرجوع إلى التاريخ نلاحظ:
أن الإنسان العربي كان آنئذٍ يعيش البداوة بأجلى مظاهرها،
وربما لم تكن له علاقة بالأرض، ولا يراوده حنين إليها إلا
بقدر ما تحمله له من ذكريات، مُرّة
تارة، وحلوة أخرى، ولا شيء أكثر من ذلك..
وكان همّه
مصروفًا إلى تحصيل لقمة عيشه بطرق سهلة، مثل رعي الإبل
والمواشي، وإلا فالسلّب
والنهب والغارة، ولو بقيمة إتلاف النفوس، وإزهاق الأرواح..
فكان من نتائج ذلك:
أن قويت عصبيّة
الإنسان العربي للعشيرة، واشتدت نفرته وخوفه من كل من
عداها.. فكان أن حُرم
من تعاون بني جنسه معه على حلّ
مشكلات الحياة، ومن فرص إرساء أسس لحضارة ذات قيمة..
وبذلك يكون
العرب قد حرموا أنفسهم أيضًا من علوم كثيرة كان من الممكن
أن تساعدهم على اقتحام مجالات حياتية مهمة ورائعة، فلم
يمارسوا شيئًا من الصنائع، ولا استخرجوا من كنوز الأرض
ومعادنها وخيراتها ما يفتح أمامهم أبوابًا
من المعرفة تفيدهم في تنويع الإستفادة منها. ولا مارسوا
حِرَفًَا تفيدهم في تيسير سبل العيش لهم، كما أنهم لم
يجدوا أنفسهم ملزمين ولو بالإلمام بشيء من العلوم
الإنسانية، على كثرتها وتنوعها واختلافها.
عناصر ضرورية لبناء الدولة والحضارة:
وغنيّ عن القول:
إنه إذا أريد بناء دولة قوية ومجتمع إنساني فاعل ومتماسك،
وقادر على إنشاء الحضارات وتحمّل المسؤوليات التاريخية فلا
بد من توفر العناصر الضرورية لذلك، والتي
بها
يتوفّر
الأمل والطموح، والشعور بالأمن والسلام، ثم التفرغ للتأمل
والتفكير، والتعرّف
على المشكلات وقهر الموانع وتجاوز العقبات، والتخطيط،
واستنباط وسائل التغلّب
عليها بالتسلح بالعلم والمعرفة، ثم السعي للحصول على
القدرات اللازمة لذلك كلّه.
وبديهي:
أن يكون ذلك كلّه
مرهونًا بالإستقرار المؤدّي
لإعمار الأرض، من خلال الإرتباط بها، وبذل الجهد في
استخراج خيراتها، ومعادنها وكل ما فيها، ووضع ثمرات هذا
الجهد في التداول، والإهتمام بتطوير الحياة به ومن خلاله،
ولا يكون ذلك كلّه
ممكنًا
إلا بالتعاون والتعاضد، والعمل على إنتاج رؤية سليمة تؤدّي
إلى تطويع وإخضاع قوانين الطبيعة لإرادة الإنسان
لتكون في خدمته..
ولا مجال
للنجاح في ذلك كلّه
إلا في ظل الأطروحة الصحيحة، التي تحدّد
الأهداف القصوى، وتحفظ مسيرة الوصول إليها وسلامتها.
وتهيمن على المسار والمسير، وتمنح الثقة بالنجاح والفلاح،
من خلال تضافر الجهود واستنفار العقول.
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1]-
نشأة الدولة الإسلامية ص255 ـ 256.
[2]- سفينة البحار ج7 ص133.
[3]- سفينة البحار ج7 ص131 و 132 والبحار ج70 ص246.
[4]- الآية 100 من سورة يوسف.
[5]- الآية 20 من سورة الأحزاب.
|