العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال = إقطاعات النبي (ص)

سياسة الإسلام للتخلص من البداوة:

وقد كان لا بدّ من الخروج من حياة البداوة، والعمل على بناء مجتمع مدني قوي وفاعل، وقد عمل الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) على تحقيق هذا الغرض النبيل، من خلال إجراءات عديدة ومتنوعة، فأوجب على الإنسان نفقات، وحمّله مسؤوليات مالية، ثم حثّه على العمل واعتبره كالجهاد في سبيل الله، وحثّ على الهجرة من البدو، وعلى السعيّ في سبيل بناء حياة كريمة، وأوجب على كل فردٍ - وجوبيًا كفائيًا - تحصيل ما يحتاج الناس إليه من العلوم.. وحثّ على تعلّم الحرف والصناعات وشجّع على التجارة والزراعة وإثارة الأرض وعمارتها، ثم إنه من جهة أخرى ذم الكسل والتواكل، ومنع من أكل المال بالباطل، ومن الظلم والحيف، واغتصاب الأموال، والتعدّي على أراضي الغير، ولو بمقدار شبر واحد، ومنع من الربا والقمار، والإحتكار.. و.. و.. ثم كانت سياسة إقطاع الأراضي كما سنرى..

ومما يشير إلى اهتمام الإسلام بالحِرَف، وبإحياء الأرض، وبالإعمار وغير ذلك ما رُوي من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: هل له حرفة؟! فإن قالوا: لا. قال: سقط من عيني([1])..

وفي مجال الزراعة رُوي: أنه (صلى الله عليه وآله) أوصى عليًا (عليه السلام) عند وفاته بقوله: (يا علي، لا يُظلم الفلاحون بحضرتك)([2]).

وقال (صلى الله عليه وآله): (إن الله أهبط آدم إلى الأرض، وأمره أن يحرث بيده ليأكل من كدّه)([3]).

وقد حثّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته للإمام الحسن (عليه السلام) على أن لا يقلع شجرة حتى يغرس عوضًا عنها وَدِية([4])، حتى تشكّل أرضها غراسًا([5]). أي لا تمتاز الأرض عن الشجر.

وعنه (عليه السلام) : (من وجد ماءً وترابًا ثم افتقر فأبعده الله)([6]).

وقال (عليه السلام) في عهده للأشتر: (ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً)([7]).

وقال الواسطي: سألت جعفر بن محمد (عليه السلام) عن الفلاحين، فقال: (هم الزارعون كنوز الله. وما في الأعمال شيء أحب إلى الله من الزراعة. وما بعث الله نبيًا إلا زارعًا إلا إدريس (عليه السلام)، فإنه كان خياطًا)([8]).

وقد علَّم الله تعالى نبيه داوود (عليه السلام) صناعة الدروع، وألان له الحديد.. كما صرّح به القرآن الكريم.

لماذا إقطاع الأراضي؟!:

ومن المفردات المفيدة جدًا في هذا المجال هو: إقطاع الأراضي، فإن إقطاع الأراضي لشخصٍ ما، معناه: أن تصبح تلك الأرض تحت اختياره، ومنع الآخرين من مزاحمته أو الحدّ من فاعليته فيها، فيستفيد من هذه الفرصة التي مُنحت له ليعمل على إحياء تلك الأرض إما بالزراعة، أو بالإستفادة منها في أيّ مجال إنتاجي: تجاري، أو صناعي، أو تعليمي، أو تربوي، أو غيره.. واستخراج خيراتها، ومعادنها، وتطويرها.. ورفد السوق بها، ووضعها في دائرة التداول، لينعش الحالة الإقتصادية، من حيث إنه يضخّ في عروق اقتصاد المجتمع دمًا جديدًا، ويزيده قوة وصلابة، ويحفزه لمواصلة نموّه، ويمكِّن من ثَمّ من تهيئة الظروف والقدرات للتحرك نحو مراحل ومستويات حياتية أعلى وأرقى، وأرحب وأوسع، لها طبيعتها ووسائلها، وحاجاتها، ولا بدّ من مواجهة مسؤولياتها، وحلّ مشاكلها.

ضرورة التعاون:

إن من الطبيعي أن يستفيد الشخص الذي وُضعت الأرض بتصرّفه، من طاقات الآخرين لإنجاز مهمة الإحياء، وإيصالها إلى أهدافها، لكي تؤتي ثمارها في ظلّ نظام قائم على العدل، يضع الأمور في نصابها، ويعطي كل ذي حق حقه..

وهذا يقتضي وضع ضوابط ومعايير ترتكز إلى منظومة من المُثل والقيم تحدّد طبيعة العلاقة، وتحكم طريقة التعامل، وربما يحتاج ذلك إلى رصد ميزات نفسية وأخلاقية معينة تفرضها صحة وسلامة هذا التعامل الممتدّ عبر الأعصار والأزمان.

وبذلك يصبح إقطاع الأراضي الموات بهدف إحيائها، وإنعاش الحالة الإقتصادية، وإيجاد فرص عمل لفئات من الناس، ثم دفع المجتمع ليتعلق بأرضه، ويستخرج خيراتها، وليعيش حالة السلام والأمن، يصبح ضرورة لا بدّ منها، ولا غنى عنها لبناء المجتمع الإنساني وبناء الدولة، ثم إرساء قواعد الحضارة القائمة على أساس صحيح ومتين من القيم الإنسانية والإلهية، عندها يصبح من الممكن الإنطلاق بالمجتمع الإنساني إلى آفاق السلام والسلامة، لينعم بالعيش الرغيد والسعيد..

إقطاع الأرض للمحتاجين:

ثم إن هذه الإقطاعات التي حصلت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كانت في الأكثر لأناس يحتاجون إليها، وليسوا من الأغنياء، إلا في موارد نادرة جدًا، أُريد بها تأليف بعض الناس، وكفّ أذاهم، مع عدم الإضرار أو الإجحاف في حقّ أي كان. ويظهر هذا الأمر من مراجعة قائمة الذين أقطعهم الرسول (صلى الله عليه وآله)، ممن وصلت أسماؤهم إلينا..

ومما يشير إلى أن إقطاع هؤلاء كان من موجبات القوة، ولَمَّ الشّعث، وإنعاش الإقتصاد بصورة أو بأخرى، ومن دون حيف وإجحاف أننا لم نجد أحدًا اشتكى، أو تساءل عن أي أمر له علاقة بهذا الموضوع، أو أبدى أية ملاحظة حول الأشخاص الذين أقطعهم (صلى الله عليه وآله). مع أن بعض الأنصار اعترضوا على إعطاء غنائم حُنين للمؤلّفة قلوبهم، حتى أوضح لهم النبي (صلى الله عليه وآله) ما أزال موجبات الإعتراض من نفوسهم..

الإقطاع للقادرين والمبادرين:

هذا.. وقد يكون الفقير أو الغني أحيانًا لا يريد أو غير قادر على الإحياء، فيصبح إعطاؤه الأرض لكي يحييها بلا مبرر، ولا يقدم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن المهمّ هو: إحياء الأرض بيد من يقدر على إحيائها، وِفقًا لأحكام الشرع..

وليس المقصود: مجرد تمليك الأراضي للناس، وينتهي الأمر عند هذا..

وقد ذمّ الإسلام الكسالى، والإتكاليين، الذين يريدون أن يعيشوا كَلاً على الناس، وأعلن عن شديد مقته لهم، ولم يرضَ لهم بمدّ يد العون، وعليه فلا حقّ لهم لكي تصح المطالبة به، لأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم..

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- البحار ج100 ص9 وفي هامشه عن جامع الأخبار (ط الحيدرية ـ النجف الأشرف) ص139.

[2]- راجع: الكافي ج5 ص284؛ وتهذيب الأحكام ج7 ص154؛ والوسائل (آل البيت) ج19 ص63؛ و(الإسلامية) ج13 ص216؛ وجامع أحاديث الشيعة ج18 ص460؛ ومكاتيب الرسول ج3 ص540؛ والخراجيات للمحقق الكركي ص90؛ ورسائل الكركي ج1 ص284 .

[3]- راجع: الوسائل (ط آل البيت) ج6 ص382 وج19 ص36؛ و(ط الإسلامية) ج4 ص981 وج13 ص196؛ ومكاتيب الرسول ج3 ص540؛ ومستدرك الوسائل ج4 ص475 وج13 ص24 و 462؛ والبحار ج11 ص211 و 212؛ وجامع أحاديث الشيعة ج5 ص235 وج17 ص130 وج18 ص434 و 435؛ وتفسير العياشي ج1 ص40؛ وقصص الأنبياء للراوندي ص53؛ ومنازل الآخرة للقمي ص41 .

[4] - الودي : على فعيل، صغار الفسيل، واحدة ودية.

[5]- راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص22؛ ومستدرك الوسائل ج14 ص57؛ والبحار ج42 ص255 وج100 ص184؛ وجامع أحاديث الشيعة ج19 ص103؛ وشرح النهج للمعتزلي ج15 ص147؛ والنهاية لابن الأثير ج2 ص496؛ ولسان العرب ج11 ص357.

[6]- قرب الإسناد ص115؛ وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص134؛ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» في الكتاب؛ والسنة والتاريخ للريشهري ج4 ص28 و 172؛ والوسائل (ط آل البيت) ج17 ص41؛ و(ط الإسلامية) ج12 ص24 والبحار ج100 ص65.

[7]- راجع: نهج البلاغة ، وقد ذكرنا شطراً من مصادر هذا العهد في كتابنا دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام.

[8]- البحار ج100 ص171؛ والوسائل (ط الإسلامية) ج17 ص42؛ و(ط آل البيت) ج12 ص25 وراجع: مستدرك الوسائل ج13 ص459 و(ط آل البيت) ص26 و 461.