لقد عرف
القاصي والداني عظمة أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله)
ولين جانبه، وإنسانيته الشفّافة وعطفه على كل الناس، حتى
إن أعداءه طمعوا بعفوه وكرمه.. وقرأ المسلمون قوله تعالى
عن نبيه (صلى الله عليه وآله): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فإذا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ}([i]).
وقوله تعالى:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}([ii]).
في مقابل هذه
الإنسانية الرفيعة، تفاجئك صورٌ منفِّرةٌ رسمتها مخيلة بعض
الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله) فتُظهره تارة بأن
عينَه لا تدمع على أحد! وأخرى بأنه يعذِّب بدقِّ المسامير
بالأيدي إلى الحائط، ويسمل عيون آخرين بمسامير الحديد
المحمّاة، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويمنع عنهم الماء ويتركهم
ينزفون حتى يموتوا،، ثم يحرقهم بالنار!!
وسنعرض في ما يلي جانبًا من النصوص التي تُظهر هذه الصورة،
وسيتبين لك أن الكتب التي تناقلتها تنظر إليها بعين الرضا
وتُصرّ على تثبيتها وتأييدها، ولا تأبه لما تسبّبه من
تشويهٍ في الصورة الحقيقية للنبي الأكرم (صلى الله عليه
وآله) التي يصفه بها القرآن الكريم فضلاً عن النصوص
المتضافرة التي زخرت بها هذه الكتب وسائر كتب السيرة.
بل إن هؤلاء
تغافلوا أحيانًا عن النصوص المعارضة التي تتحدّث عن
الوقائع نفسها والتي تتضمن تنزيهًا للنبي (صلى الله عليه
وآله) وشهادة بنفي ما نسب إليه، بل إنهم ردّوا ما ورد عن
أهل البيت الصادقين (عليهم السلام) من تكذيبٍ لبعض رواة
هذه النصوص وكشف كون هذا الافتراء على النبي (صلى الله
عليه وآله) إنما هو لتبرير قسوة الأمراء من حكّام قريش.
وقد سمّينا هذا النوع من الروايات التي تشوّه صورة النبي
(صلى الله عليه وآله) وتطعن في عصمته: (القرشيات)،
التي تتعاون مع (الإسرائيليات) في هذا الأمر.
صوّروا النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه قاسي القلب!
قالت
عائشة كما في مسند أحمد:6/141:
(ثم دعا سعد (بن معاذ) قال: اللهم إن كنت أبقيتَ على نبيك
(ص) من حربِ قريش شيئًا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب
بينه وبينهم فاقبضني إليك. قالت فانفجر كَلْمُهُ (جرحه)
وكان قد برئ حتى ما يُرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى
قبّته التي ضرب عليه رسول الله (ص). قالت عائشة: فحضره
رسول الله (ص) وأبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفس محمد بيده
إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا
كما قال الله عز وجل رحماء بينهم!
قال علقمة:
قلت أي أمَّهْ، فكيف كان رسول الله (ص) يصنع؟ قالت: كانت
عينه لا تدمع على أحد! ولكنه كان إذا وَجَدَ فإنما هو آخذ
بلحيته)!!
قال في مجمع
الزوائد:6/13: (قلت في الصحيح بعضه، رواه أحمد، وفيه محمد
بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات ).
انتهى!
ويظهر من
كلام عائشة أن أبا بكر وعمر أكثر رقةً وإنسانيةً من النبي
(صلى الله عليه وآله) فقد كانا يبكيان وينتحبان على سعد بن
معاذ، عندما كان يحتضر في خيمته في المسجد، أما النبي (صلى
الله عليه وآله) فلم يكن يبكي على أحد.
كيف نصدّقهم في أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قاسي
القلب؟!
معاذ الله،
وحاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله)! وكيف يصدّق عاقل أن
النبي العطوف الرحيم (صلى الله عليه وآله) كان بهذه الصفة،
وقد روى الصحابة بكاءه في مناسبات عديدة.
ففي
البخاري:8/186:
(فلما دخلنا ناولوا رسول الله (ص) الصبي ونفسه تقلقل في
صدره، حسبته قال كأنها شِنَّة، فبكى رسول الله (ص)، فقال
سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال: إنما يرحم الله من عباده
الرحماء ).
وفي
البخاري:2/85: (فلما رأى القوم بكاء النبي بكوا).
وفي
مسلم:7/76: (فدمعت عينا رسول الله فقال: تدمع العين ويحزن
القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك
لمحزونون). انتهى.
وكيف نصدّق
أن عمر كان أرقّ منه؟! وغلظته وشدّته مضرب المثل! وهو الذي
كان ينهى عن البكاء على الميت، ويضرب عليه بالسياط؟!
إن هذه
الرواية وأمثالها في مصادر المسلمين تشوّه شخصية النبي
(صلى الله عليه وآله) الذي استطاع بتعاليم ربّه أن يُطلق
من منطقة الجزيرة القاحلة القاسية أعظم مدّ حضاريّ إنساني
وأرحمه بالبشرية، وأقلّه كلفة على الإطلاق حيث لم يتجاوز
مجموع الذين قُتلوا في معاركه من الطرفين ستمائة شخص!
بينما بلغت
خسائر المسلمين في حرب الجمل وحدها التي سببتها عائشة
صاحبة هذه المقولة في تمرُّدها مع طلحة والزبير على
الخليفة الشرعي، عشرين ألف قتيل!!
ماذا قالوا في آية العقوبة والمحاربة ؟
إذا رجعت في
مصادرهم الفقهية إلى بحث نهي النبي (صلى الله عليه وآله)
عن المُثلة، أو إلى تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}([iii])،
أو تفسير قوله تعالى: {إنما جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض
فسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أيديهم وأرجلهم مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرض
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}([iv])،
اقشعرَّ بدنك مما ينسبونه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
من القتل والتمثيل بالناس!! مخالفين بذلك ما رَوَوه
ورويناه من أن النبي (صلى الله عليه وآله) عندما رأى تمثيل
قريش وآل أبي سفيان بجثّة عمّه حمزة في أُحد، وأخبروه أن
هندًا أمّ معاوية أخذت قطعة من كبده ولاكَتها فلم تستطع
مضغها فلفظتها! قال (صلى الله عليه وآله) إنه سيقتصّ
بالتمثيل بهم، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ
صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}([v]).
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أَصْبِر أَصْبِر.
ونهى المسلمين عن المُثلة حتى بالكلب العَقور!
ففي مجمع
الزوائد:6/120:
(أحزنه ما رأى به فقال: لئن ظفرت بهم لأمثِّلَنَّ بثلاثين
رجلاً منهم، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ},
إلى قوله: {يمكرون...} ولما نزل القرآن عفا رسول
الله (ص) وتجاوز، وترك المُثل). انتهى.
وفي نهج
البلاغة:3/77:
(يا بني عبد المطلب لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين
خوضًا تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنّ بي إلا
قاتلي، انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً
بضربة، ولا يُمَثَّل بالرجل فإني سمعت رسول الله (صلى الله
عليه وآله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور).انتهى.
لكنَّ رواة
السلطة مع ذلك، نسبوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنه
بعد يوم أحد بثلاث سنوات قتل أشخاصًا ومثَّل بهم، وسَمَلَ
أعينهم! أي فقأها بمسامير محمّاة، وتركهم عطاشى حتى ماتوا،
بل رَوَوا أنه أحرقهم بالنار!! وأن ذلك كان في السنة
السادسة للهجرة، أي بعد معركة أُحد بثلاث سنوات! ([vi]).
وقد ارتكب كل
فقهائهم نسبة هذه التهمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
مع الأسف! وحجّتهم أن البخاري وغيره رووها عن رواة
موثوقين!
قال
البخاري في صحيحه:1/64:
(عن أنس قال:
قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتَوَوُا المدينة، فأمر لهم
النبي (ص) بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها،
فانطلقوا، فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي (ص) واستاقوا
النّعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما
ارتفع النهار جيء بهم فقَطَعَ أيديهم وأرجلهم وسُمِّرتْ
أعينهم، وأُلقوا في الحرة، يستسقون فلا يسقوْن).
وقال
البخاري في:5/70:
(فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم وتركوا في
ناحية الحرة، حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة بلغنا أن
النبي (ص) بعد ذلك كان يحثُّ على الصدقة، وينهى عن
المُثلة). انتهى.
ومقصوده أن
النبي (صلى الله عليه وآله) تاب بعد ذلك، وكان ينهى
المسلمين عن المثلة، ويحثّ على التصدّق ويتصدّق ليغفر له
الله ما ارتكبه من المثلة!!
وقال
البخاري في: 4/22:
(فبعث الطلب
فما ترجَّل النهار حتى أتيَ بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم
أمر بمسامير فأحميت فكحَّلهم بها، وطرحهم بالحرة يستسقون
فما يسقون، حتى ماتوا ). وقال في: 8/19: ( فأمر
بمسامير فأحميت فكحَّلهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما
حَسَمهم، ثم ألقوا في الحرة).انتهى. وروى مثله أبو
داود: 2/331.
وقال في
عون المعبود:12/15:
(قال المنذري: وأخرجه البخاري، ومسلم والنسائي (بمسامير)
جمع مسمار... (فكحَّلهم) أي بتلك المسامير المحمّاة. (وما
حسمهم) الحسم الكي بالنار لقطع الدم، أي لم يَكْوِ مواضع
القطع لينقطع الدم بل تركهم.
ورواه مسلم:
5/102، وفيه: (فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم،
وسمِّرت أعينهم، ثم نُبذوا في الشمس حتى ماتوا... وسمّرت
أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون). ورواه أبو
داود: 1/602، والترمذي: 2/431
وفي
الفائق للزمخشري: 1/212:
( قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه حتى ماتوا
عطشًا). انتهى. أي يعضّ الأرض من العطش!!
وفي سبل
الهدى: 6/116:
( قال أنس كما عند ابن عمر: خرجت أسعى في آثارهم مع
الغلمان حتى لقي بهم رسول الله (ص) بالرغابة بمجتمع
السيول، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها).
وفي تفسير
القرطبي: 6/148: (قال
جرير: فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله (ص): النار!
وقد حكى أهل التواريخ والسير: أنهم قطعوا يدي الراعي
ورجليه وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة
ميتًا! وكان اسمه يسار وكان نوبيًا. وكان هذا الفعل من
المرتدين سنة ست من الهجرة. وفي بعض الروايات عن أنس: أن
رسول الله (ص) أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم)!!
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــ
[i]
- سورة
آل عمران: 159.
[vi]
- تفسير القرطبي: 2/146
|