العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الإسلام في مواجهة التحدّيات

(مسألة الرسوم) قضايا قديمة أم جديدة

د. حسن جعفر نور الدين*

 محنة الإسلام في الغرب

في خضم ما يدور من أحداث، وعلى ضوء ما يُسمع من أخبار تتناول شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله) التي أدهشت العالم أجمع منذ ولادته وحتى اليوم.

على ضوء ما يُسمع، ويُقرأ، نرى لزامًا علينا أن لا نغفل عن إبداء الرأي وتسجيل بعض المواقف.

ونستطيع أن نقول بكل وضوح، أنه لو لم تكن شخصيّة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مُلهمة وخلاقة، لما كان يدور حولها حديث من هنا وآخر من هناك، سواء كان سلبًا أو إيجابًا.

لقد قرأنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أحاديث هي في قسمٍ منها مصدر اعتزاز وفرح، وفي القسم الآخر مصدر استنكار وقلق.

ولو لم تكن هذه الشخصية العملاقة قد تجاوزت الحدود الجغرافية والزمنية لما استحوذت على هذا الكمّ الهائل من الدراسات الذي ما زال يُولد يومًا بعد يوم.

ولعمري فإنّ المواقف السلبية والأحاديث الجارحة بحق الرسول (صلى الله عليه وآله) ما هي إلا زوبعات عقيمة سُرعان ما تتلاشى وتَضمحل على صخرة المدّ الرسولي، ولن تؤثّر صيحات المغامرين وتعصّب الموتورين على نورانية نبي الرحمة الذي أكرمه الله فاستغنى عن كل تكريم آخر.

ولن تكون صيحات هؤلاء وتصرّفاتهم بأدهى مما لاقاه الرسول في حياته على يدِ نفرٍ من أقربائه ومعارضيه.

كانت تصرّفاتهم آنذاك لا ترتدّ إلا عليهم، وبقي نجم الرسول يصعد في سماء العالم أجمع، يفرض احترامه ومكانته وجلاله، حتى عند خصومه الذين كانوا رغم معارضتهم له يُقرّون بفضله وعظمته، فسمّي الأمين والصادق واختير حكَمًا بين القبائل في أكثر من موقف.

إذن لم تكن الحملة على الرسول بجديدة، لقد بدأت منذ سطوع اسمه في الجزيرة العربية، فكان له محبّون، ومبغضون، مؤيدون ومناجزون.

قبل أن يهبط عليه الوحي بسنوات، وخلال رحلة تجارية له إلى الشام، لَمَحه الراهب بحيرى في بُصرى الشام، فتوسّم فيه الشأن العظيم، ورأى في ملامحه ما علمه من دينه أنه سيُبعث في الجزيرة العربية نبيّ جديد، فربّت الراهب على كتفه وقال له: سيكون لك شأن عظيم يا بني، منذ تلك اللحظة تلاقت المسيحية بالإسلام، إنها الإرهاصات الأولى لضرورة التلاقي الحميد بين الأديان السماوية على قاعدة المنفعة والخير للبشرية جمعاء([i]).

وأظنّ أن الرسّامين الغربيين الذين سوّلت لهم أنفسهم، وجَنَت عليهم أيديهم ونواياهم اقتراف هذا الإثم الكبير، أظن أنهم لم يقرأوا عن الرسول ولا عرفوه، ولا دروا ما أدلى بحقّه العلماء والأدباء والفلاسفة والشعراء، الشرقيّون والغربيون على السواء، أو أنهم صمّوا آذانهم عن سماع الحقيقة الدامغة، واستسلموا لمكوّنات نفوسهم المجبولة بالتعصّب والتجنّي والافتراء.

ومهما يكن من أمر، فلن يحصدوا إلا السّراب، ولن تستطيع أقلامهم وأقلام من سبقهم ومن سيليهم طَمْس هذا الدين الحنيف الذي تكفّل الله بحمايته بقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}([ii]).

لم تكن الحملة على الرسول كما أسلفت جديدة، بدأت مع المشركين آنذاك، ثم تفاقمت حتى اضطره الأمر إلى الطلب من أصحابه الهجرة إلى الحبشة، ومن ثمَّ كانت الهجرة الكبرى أو الثانية إلى المدينة المنوّرة، علاوة على مبلغ ما عاناه من يهود الجزيرة العربية حتى لحظات وفاته([iii]).

كانت سهام حقدهم تُصيبه في حياته فكيف تكون في غيابه.

نعم. ليسوا أوّل الخائبين، ثم استمرّ الأمر عبر العصور، مرورًا بالتحدّيات التي تعرّض لها الإسلام، وأدهاها مرحلة الحروب الصليبية التي أذكت البَغضاء والشحناء، وكانت شرًّا على المسيحية والإسلام، وشجّعت أصحاب الآراء المتطرفة على الجهر بها حيث وجدت الأرض الخصبة لذلك، والمناخ الملائم، لأن أعتى صنوف الحروب والنزاعات هي الحروب الدينية، لعلاقتها بالمشاعر والأحاسيس والوجدان.

ظلّ سَيل التشكيك متواترًا ووقحًا، ينطلق على ألسنة كثير من المستشرقين المتعصّبين، فزعم المستشرق الألماني "مرغليوث" أن محمدًا كان يعيش من أموال السلب وغير ذلك.

وأفظع من ذلك بعض ما ورد من أشعار وأناشيد في القرون الوسطى رسخت خرافاتها في الأذهان، فقد وصفوا المسلمين بأنهم مشركون وعبدة أوثان، وأنهم جعلوا لهم آلهة ثلاثة، ماهوم وبافوميد وياهوميد، وأن نبيهم محمدًا كان يدعو الناس لعبادته في صورة وَثَنٍ من ذهب، وفي بعض قصصهم أن الله - إله محمد - جاء في موكب عظيم يضرب بالطبل والمزامير والكلّ يرقصون ويغنّون.

وقد افترى الأب "هنري لامانس" البلجيكي على الإسلام بمزاعم كثيرة باطلة، إذ وصف الرسول بعدم الشجاعة في كتابه [الإسلام]، علاوة على نعته بأبشع ما يظهره الحقد والكراهية، حتى لكأننا نسمع أسلوب رُهبان القرون الوسطى الذين لم يكن في جعبتهم إلا السُّباب والشتائم، حتى أنه قال في كتابه [مهد الإسلام] ص190: ((إن قراءة القرآن تقزز النفس))([iv]).

وقد بلغ الإسفاف بأحدهم - وهو أميركي - أن طلب سنة 2002م دكّ الكعبة الشريفة، وقال عضو مجلس الشيوخ البريطاني "غريفن" سنة 2004م: أن الإسلام عقيدة فاسدة، أما المستشرق الغربي "دانيال نورمن" فإنه ذكر: أن المسلمين لصوص وقتلة، إلى غير ذلك من النعوت القاسية، ودفع الغرور والتعصّب بأحد الوزراء الإيطاليين إلى ارتداء قميص عليه رسوم الرسول الكاريكاتورية، إمعانًا في الكراهية والحقد.

وقد لحقهم سيّدهم "بوش" عندما تحدّث عن الزمن الصليبي القادم إلى الشرق، وهو وإن ادّعى أن ما صدر منه زلّة لسان، فهذا غير صحيح، وما تقدّم به كان مدروسًا ولم يأت من فراغ ويدل على نوايا مبيّتـة تخدم الصهيونية ومصالحها.

ما الغاية؟

ولكن ما الغاية التي يرمي إليها بعض العالم الغربي من خلال أبواق فتنةٍ تذرّ بِقَرنها من آنٍ لآخر، وتُلهب الساحة العالمية بجرعات التعصب والعنف، ولا نستطيع أن ننظر إلى ما يجري بمعزلٍ عن الأحداث التي تعمّ الساحة الدولية، فكل حدث يحصل تكون له دلالاته ودوافعه وغاياته.

إذن، ما هي مبرّارت هذا العمل الآثم الذي أقدمت عليه مجموعة من الرسّامين العنصريين، ولماذا تبنّاه كثير من المسؤولين الغربيين وأشادوا به ودافعوا عنه ؟ في الوقت الذي كان يجب عليهم استنكاره ومعاقبة مرتكبيه، إذا كانوا حريصين على علاقات نقيّة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.

لكن الظاهر أن أحد أهداف الغرب هو احتواء الشرق، والسيطرة عليه من النواحي كافّة، وإخضاعه لمجموعة القيم التي تُعدّ في المطبخ الغربي تمهيداً لتعميمها على دول الشرق العربي، وقد بدأت فعلاً هذه النوايا تظهر إلى العيان وتُنَفّذ في أكثر من دولة، ابتداءً بأفغانستان والسودان والعراق وانتهاء بسوريا ولبنان، علاوة على دول أخرى تتّخذ سياسة الممانعة في علاقتها مع الدول الاستعمارية.

وليست هذه التظاهرات التي عمّت العالم الإسلامي وما تخلّلها من تحطيم عدد من السفارات الأجنبية، وبصورة خاصة الدانماركية والإيطالية، والتعليقات التي صدرت من المسؤولين وغيرهم عبر وسائل الإعلام إلا صورة من صور التعبير عن الامتعاض والاستياء من السياسة الاستعمارية التي كانت تلك الرسوم الكاريكاتورية أحد وجوهها المُنكرة.

وفي الوقت نفسه كان دخول الصحافة الغربية في هذا الموضوع سافراً ومتحيّزاً وبربريًا، لقد أسهمت عن قصد وتعمّد في تغذية التوتر وتعميق الجرح لأهداف وأغراض مبيّتة وغير بعيدة عن الصهيونية العالمية، التي تحاول منذ إنشاء كيانها المغتصب تأليب الغرب على العالَمين العربي والإسلامي، ودفع هذه الأطراف إلى التصادم العقائدي والفكري والحضاري تمهيداً للتصادم العسكري الذي يُرسّخ وجودها هي كدولة مُهيمنة في الشرق الأوسط.

وما الموقف الأميركي والأوروبي من المُفاعل النووي الإيراني وإصراره على منع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية إلا جزءًا من الحرب العلنية والخفيّة على الإسلام والمسلمين.

هذه الحرب على الإسلام تأخذ أكثر من منحى واتجاه، وما سياسة العولمة التي تحاول الولايات المتّحدة الأميركية تعميمها على العالم أجمع، إلا وسيلة للسيطرة الثقافية والفكرية، ومن ثَمّ ابتلاع السوق العالمي وفرض الهيمنة الحضارية والثقافية، ومن فصول هذه السياسة الخَرقاء الخاصة بالشرق الأوسط، ذاك التدخل السافر في فرض نوعية البرامج التعليمية والثقافية، ومناهج التعليم التي يجب أن تُلقّن للأجيال، والتي تخدم مصالح الاستعمار الغربي وتؤسّس للتعايش مع الكيان الصهيوني وأهدافه التوسّعية، وتُفضي إلى خلق عناصر خانعة مستسلمة لا تقوى على الرفض والممانعة.

إذن، ليست الصور الكاريكاتورية أول ولا آخر الحروب على المسلمين والإسلام، إنها حرب ذات أبعاد مختلفة لهدف واحد.

وأظن أن هذه الحرب المدمرة لن تتوقف ما دمنا ممزقين مشتّتين، يُواجه بعضنا البعض الآخر، ونضطر لأن نستورد من العالم الغربي كل شيء تقريبًا، من حبّة الشوكولا إلى الطائرة، وطالما أننا نُنجب أنظمة سياسية هرمة تُساير الدول الاستعمارية وتتزّلف إليها حمايةً لمراكزها وعروشها، ولا تجرؤ على الجهر بمطالبها وحقوقها العادلة إلا بالتمني الخجول، هذا إن حدث.

وإننا نتحمّل جميعنا جزءاً كبيراً من المسؤولية عمّا يتعرض له رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله) وإسلامنا الحنيف على أيدي الحاقدين، علمًا أننا لا نُنكر وعي وإدراك وسَهَر كثير من المسؤولين الدينيين والسياسيين في لبنان وغيره من دول العالم العربي، وجهرهم علانيةً بآرائهم وتطلّعاتهم، ومواعظهم وإرشاداتهم ونقدهم البنّاء على أمل المساهمة في الوصول إلى ما يرضي الله ورسوله.

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ محاضر في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية في صيدا.

[i] - تاريخ الإسلام، د. حسن إبراهيم حسن: ج1 ص75.

[ii] - سورة الحجر الآية 9.

[iii] - سيرة ابن هشام: ج1 ص 356 ؛ وتاريخ الإسلام، د. حسن إبراهيم حسن: ج2 ص88-89.

[iv] - الشيخ خليل ياسين، محمد عند علماء الغرب، ص78 إلى ص84.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس    أرشيف المجلة     الرئيسية