لماذا وكيف بدأت القضية؟
بدأت رحلة البحث عن صور للرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه
وآله) من خلال حادث عفويّ هدفه إيجاد صورة للنبي محمد (صلى
الله عليه وآله) لكتابٍ للأطفال في الدانمارك، ولما لم
يُعثر على صورة تمّ الاتصال بجمعية الفنّانين التشكيليين،
وعُثر هناك على من كان مستعدًّا لتنفيذ هذا العمل، ولم يكن
هذا السلوك يحمل في بداية الأمر أيّة إساءة للرسول، هذا
الجزء الهامشي أثار الفضول في عقول القائمين على صحيفة (يولاندس
يوستن) الدانماركية، ودقّ إشارات التنبيه فيهم، فاغتنم
محرّر الصفحة الثقافية الأمر، ودعا عددًا من الرسّامين إلى
"وليمة" رسم الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فاستجابوا
له، وحصل على اثنتي عشرة صورة، وما لبث أن نَشَرَها بتأييد
من رئيس تحرير الصحيفة (كارستن يوستن)، بعد أن رفض ثمانيةٌ
وعشرون فنّانًا الاستجابة لفكرة وضع الرسوم عن نبي لدين
معروف بالعنف كما يقول مناصرو "يوستن"، تلك هي البداية.
ولم تكن الصور مجرد رسوم للزينة أو للأطفال، إنما كانت
صورًا مُشينة، ذات غايات وأهداف محدّدة، ترمي إلى تحقير
النبي (صلى الله عليه وآله) وإشاعة ما يسمّيه الكتّاب
الإسكندنافيّون: بمرض الذعر من المسلمين ([i]).
لكن ما هو تبرير رئيس تحرير "يوستن"
يقول "يوستن": إن هدفه لم يكن النبيّ محمدًا نفسه، بقدر ما
كان يريد أن يخلق نقاشًا حول الرّقابة وحرّية
التعبير، كي يُثبت عمليًا أن الجماعات التي تؤمن بهذا
الدين مُعادية لحريّة التعبير، وهو يعني أنه قام
باستفزازهم كي يُثبت أنهم مُعادون للديمقراطية، وهذا عمل
شرّير مدروس، يدلّ على نيّة خبيثة وفيه قدر كبير من سوء
القصد والرغبة في التحريض.
حرّية التعبير
إن الديمقراطية التي تتباهى بها الصحيفة الدانماركية
وتنسبها إلى العالم الغربي ما هي إلا محض افتراء، ونحن
نراها كيف تُذبح في كل مكان لا يُدين بالطاعة للحلف
الأمريكي الأوروبي، فالديمقراطية الشعبية النقيّة التي
حملت "تشافيز" إلى السلطة في فنزويلا هي ديكتاتورية برأي
هذا الحلف الشيطاني، والديمقراطية التي نقلت حماس إلى
الحكم في فلسطين هي ديكتاتورية بنظرهم أيضًا، وهكذا تقيس
الدول المستبدّة الأشياء بمدى ملاءمتها لقضاياها وأطماعها.
ولم يكن طُغاة العالم ليعترفوا بحقّ الشعوب في تقرير
مصيرها أصلاً ولم يؤمنوا يومًا بالديمقراطية والحرّية
ليتشدّقوا بحرية التعبير التي يفسّرونها على مزاجهم الخاص.
والإسلام العظيم كان أوّل الداعين إلى الحرّية بكل
أشكالها، وفي طليعتها حرية التعبير وإبداء الرأي وحرية
التصرّف ضمن الحدود التي لا تمسّ مشاعر الآخرين.
وإذا كانت الصحافة الدانماركية تستند إلى حرّية التعبير في
ما قامت به، فهي واهمة، لأن ما فعلته ومن تَبعها من صحفٍ
في العالم يشكّل مخالفة صريحة للقانون الدانمركي نفسه،
خاصة في مادتيه 77 و256ب.
جاء في المادة 77 من الدستور الدانمركي: "كلُّ فرد له حق
التعبير كتابيًا وشفاهيًا وحق إظهار أفكاره، ولكن بالخضوع
أمام مسؤولية القانون".
وجاء في المادة 120: "الذي يقوم بالسخرية العلنية أو
يُدنّس في هذه البلاد (الدانمارك) مُعْتَقَدًا لجماعةٍ
دينية شرعية، أو مُعْتَقَدًا إلهيًا يُعاقَب بالغرامة أو
بالحبس لمدة أربعة أشهر".
أما المادة 256 ب فتقول: "الذي يقوم علنًا أو عمداً بنشر
تصريحات أو أخبار تتضمّن تهديداً أو إهانة بسبب الجنس، لون
البشرة، الجنسية، أو الأصل العرقي، أو المُعتقد، يُعاقب
بالغرامة أو بالسجن لمدةٍ أقصاها سنتان".
وللتأكيد على حرية التعبير التي يزعمونها، قامت صحيفة
"مغازيت" الدانماركية المسيحية في العاشر من كانون الثاني
2006م، أي قبل الصحف الأوروبية بعدة أسابيع بإعادة نشر
الصور، معلّلة ذلك على لسان رئيس تحريرها "سلبك" بأن
التهديد الإسلامي تهديدٌ لحرية التعبير، الحرية مهدّدة من
قبل دين معروف باستخدامه للعنف([ii]).
وإمعاناً في هذا الهذَيان نشرت صحيفة (ديمقراطيو السويد)
على لسان رئيس تحريرها "ريكارد يومسهوف" أسباب تأييدهم
لنشر الصور قائلةً: (لهذا السبب قرّرنا أن نمشي في إثر
"يولاندس يوستن"، لنُظهر أن حرية التعبير في السويد تقف
فوق أي اعتبار للمسلمين في ما يتعلق بنشر صور محمد)،
والمعروف أن مجموعة "ديمقراطيو السويد" هي التسمية
المحسّنة لحزب النازيّين الجُدد السويدي([iii]).
بهذه الطريقة يفكّر هؤلاء بمسألة حرية التعبير، مُعلنين
صراحةً أنه لا يهمّهم مشاعر المسلمين وأن رغبتهم في نشر
الصور هي فوق كل اعتبار، وهذا يعتبر ضربة ماحقة لقانون
حرية التعبير، وكأنّ مقياس هذه الحرية لديهم هي إشاعة
الكراهية والحقد بين بني البشر، وأن مشاعر أكثر من مليار
ونصف مليار من المسلمين على وجه الكرة الأرضية ليست عندهم
في الحُسبان، أما مسألة الاعتذار فلم تكن جدّية، ففي كلمة
رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية التي نشرت الصور، والتي
قدّم فيها اعتذاره للمسلمين قال: (إن نشر الصور لا يتعارض
مع القانون الدانمركي، ولكن لا يمكن إنكار أن ذلك تسبّب في
انتهاك مشاعر العديد من المسلمين)، لكنه عاد - وبعد يوم
واحد فقط - وطلب من صحيفة "داغنس نبهيز" السويدية أن
تتضامن معه في إعادة نشر الصور على صفحاتها معربًا عن
سعادته لأن بعض الصحف الأوروبية فعلت ذلك، فأيّة عدالة هذه
التي يتحدثون عنها! أيّة حريةِ تعبيرٍ يتشدّقون بها! وأي
اعتذار قدّمه هذا الصحافي المتعصّب، خاصة بعد أن تابع
يقول: "إنه لأمر رائع أن تلحق بنا صحف أخرى، كلما كثر
عددهم ازداد الضغط على الأصوليين الذين يخنقون حرّية
التعبير"([iv]).
حرّية التعبير التي دمّروها في فيتنام والجزائر وفلسطين
وفنزويلا ودول أفريقيا السوداء، وفي تشيلي وغيرها، ولم يقم
نظامٌ بالاقتراع الشعبي ولم يكن لأميركا وحلفائها فيه نصيب
إلا اعتبرته خروجًا على الديمقراطية ولاحَقَته بشتّى
الوسائل.
أبعاد القضية
إن كل ما جرى وما يجري، لا يمكن فصله عن بُعده السياسي، من
حيث أن الرسوم الكاريكاتورية نُشرت في جرائد سياسية، ثم
استغلّت أنظمة غربية هذا الحدث لإشاعته وترويجه في كل
مكان، والأدهى من ذلك أن هذه الرسوم نُشرت في لحظات توتّر
وجدال سياسي عميق بين الإسلام والغرب، وهذا وحده كما قال
خالد الصاغيّة في جريدة السفير 11/2/2006م، يَفقد أي براءة
يمكن أن تدّعيها تلك الدول، ولقد دخلت الرسوم شاءت أم أبت،
في الصراع السياسي الدائر في الوقت الحاضر.
وقد أجمع المعلّقون الأتراك، ولا سيّما الإسلاميّون
-المعتدلون منهم والأصوليون- على خطورة ما حدث في
الدانمارك وإيطاليا، فقد انتقد "علي بيرم أوغلو" - وهو
مفكّر ومحلّل سياسي تركي - ازدواجية الغرب، معتبرًا أن
التطوّرات هي ثقافية، إنها حرب عالمية بين الغرب والشرق
حول الدين، ثم يقول "بيرم": إن الغرب يبذر في كل يوم بذور
الكراهية عبر آلية تحقير وتحريض علنية، ويذكّر الكاتب
بقرارٍ للمملكة الأوروبية لحقوق الإنسان يؤيد عام 2006
قرارًا قضائيًا بمنع توزيع فيلم يتضمّن شتائم ضدّ الدين([v]).
وتساءل الكاتب "أوجافتان" - وهو صحفي ومفكّر تركي -: "هل
أصبح شتم القيم المقدّسة جزءًا من الحريات الديمقراطية، أي
هل نستطيع اليوم كمسلمين أن نشتم الدانماركيين والألمان
والفرنسيين وبيارقهم ورموزهم"، ثم قال: "إن أوروبا لا تفهم
أو لا تريد أن تفهم أن هذا ليس حرية صحافة بل حرية سباب
لقيم مقدّسة.
ويقول "قره علي" - وهو أديب وصحفي تركي -: " إن
استراتيجيات أميركا وأوروبا الآتية ترتكز على صدام
الحضارات الذي هو مشروع غربي، إن خطاب " الخطر الإسلامي"
لم يقتصر فقط على الاستراتيجيات العسكرية - الآنية للغرب -
بل تحوّل إلى قناعة وممارسة سائدة في حياته اليومية ([vi]).
كل ما ذكرناه، يؤكّد على المنحى السياسي لقضية الرسوم، وما
جرى في العراق من إقدام جماعات مدفوعة من المحتلّ الأميركي
على تفجير قبّة الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)
يكرّس التأكيد ويقوّيه، ذلك أن ما تحاول السياسة الأميركية
ومن معها فعله، هو إحداث شرخ بين السنة والشيعة، وصولاً
إلى حرب طائفية مدمّرة تُفضي إلى تقسيم العراق إلى دويلات
يسهل إحكام السيطرة عليها ووضعها تحت السّنْدان الأميركي.
وعلى هذا المستوى نفسه تعمل في التعاطي مع الملفين السوري
واللبناني، وقد بدأ العمل بذلك منذ سنوات، ووصل إلى الذروة
في حادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث وظّفت أميركا
ومعها إسرائيل هذا الاغتيال لضرب الجبهتين السورية
واللبنانية، عبر تشجيع حلفائها القدماء والجدد، ودفعهم إلى
التمرّد، وخلق حالة طائفية تؤدّي - لا سمح الله - إن حدثت
إلى تقسيم كل من سوريا ولبنان، مما يريح الصهيونية، في
الوقت الذي تكون فيه أميركا مشغولة في معالجة الملف النووي
الإيراني لإبعاده عن المواجهة، وتخليص إسرائيل من كل ما
تعتقد أنه يشكّل خطرًا على وجودها.
إلا أن هذا المشروع يصطدم بعقبات كثيرة، ودونه مطبّات
وحواجز متعدّدة، ليس من السهل تجاوزها أو تنحيتها عن مسار
الحياة السياسية، فالكراهية نحو المسؤولين الأميركيين
تزداد يومًا بعد يوم، خاصة أن أميركا سبقت الأوروبيين في
المساس بمشاعر المسلمين في العالم، وما زلنا نذكر واقعة
تدنيس القرآن الكريم التي أقدم عليها جنود أميركيّون في
معتقل غوانتانامو، والتي فضحتها صحيفة النيوزويك في أيار
من العام 2005م.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[i]
- سلام عبّود، نشر صور الرسول، السفير 11/2/2006م.
[ii]
- سلام عبود – السفير- ص19-
تاريخ 11/2/2006م.
[iii]
- سلام عبود جريدة السفير 11
شباط 2006.
[v]
- د. محمد نور الدين، جريدة
السفير، ص15، 4/2/2002م.
[vi]
- المصدر نفسه، تركيا، معايير
كوبنهاغن للسباب - السفير، ص15، 4/2/2002م.
|