ما الحل أو كيف العمل
في هذا الجوّ المحموم الذي تسبّبت به الصحافة الدانمركية،
وعلى إثر التظاهرات العارمة التي عمّت العالمين العربي
والإسلامي، وبعد هذا السّجال الصحافي الحادّ، وتعميم الصور
في وسائل الإعلام الغربية، وعلى شاشات الانترنت، وبعد
التصريحات الهدّامة التي أدلى بها مسؤولون أميركيّون
وأوربّيون، وبعد محاولات ضخِّ الأحقاد في نفوس الشعوب
الغربية ضدّ العالم الإسلامي.
نتساءل ! كيف يمكن الوقوف في وجه هذا التحدّي السافر،
ومواجهته، علمًا أنه لم يتوقّف منذ قرون، وقد سبق وذكرت أن
أول فصول هذا التحدّي بدأت إرهاصاته الأولى في حياة الرسول
(صلى الله عليه وآله)، أما آخر هذه الهدايا الفتّاكة التي
قُدّمت علاوة على الصور الكاريكاتورية، فمنها تصريح رئيس
تحرير صحيفة "يولاندس يوستن" حيث قال: إن اندماج المهاجرين
ربما يكون مشروعًا مستحيلاً، هناك هوّة بين الإنسان الغربي
والعالم الإسلامي.
حتى إن زعيمة حزب الشعب الدانماركي "بياشيشبارد" لا تنفك
تحذّر من خطر المسلمين، وتعتبرهم، بمن فيهم الذين حملوا
الجنسية الدانماركية، خونة([1]).
وقبل أشهر صدرت دعوات في أستراليا لطرد الشرقيين - ومعظمهم
من المسلمين - من البلاد، وحصلت أعمال شغب وتعدٍّ جنونية
ضدّ المصالح الإسلامية هناك ودمّرت فيها محالّ ومتاجر،
وذهب ضحيتها كثيرون.
حوادث لا تنتهي، وتحتاج إلى يقظة في الضمير، وعودة إلى
التبصّر بجوهر الأديان السماوية، وسلوك أنبياء الله
المكرّمين في هدايتهم لبني البشر.
إننا بالإضافة إلى ضرورة تربية أجيال تشعر بالمسؤولية،
محصّنة أخلاقيًا وإيمانيًا، تعالج الصّعاب بعقول راجحة،
وآراء سديدة، ونوايا طيبة انسجامًا مع تعاليم الأديان
السماوية وفي طليعتها الإسلام.
وعلاوة على دور روّاد الفكر والدين والتربية بالتوجيه
والوعظ والتلاقي عبر الندوات والدعوات والمحاضرات الهادفة.
علاوة على أهمية هذه المبادرات، فإن الرائد الأول في هذا
المضمار هو الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي كان يقابل
الإساءة بالحسنة، ويغفر حتى لألدّ أعدائه، كما جرى له مع
اليهودي الذي كان يرمي القاذورات أمام داره، ويرشُقه
بالحصى على الطريق، وعندما مرض اليهودي عادَه الرسول (صلى
الله عليه وآله)، فبُهِت اليهودي وأسلم، لقد رأى نُبل
الإسلام بأمّ عينيه فآمن عن يقين.
وخلال نبوّته (صلى الله عليه وآله) كان مثال المُصلح
والمُوجّه والحكيم في تصدّيه لكل المعضلات، وهذا هو السبب
في سرعة انتشار الإسلام.
عندما استقر الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة بعد
هجرته إليها، كان أوّل عمل قام به أن ألّف وآخى بين الناس،
وعقد حِلفًا بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، وبين اليهود،
جاء فيه: (إن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من
تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة غير مظلومين ولا
مُتَنَاصَر عليهم)([2]).
ومن المعروف أن الرسول وجد في المدينة لدى مَقْدَمه إليها
طوائف من أهل الكتاب، فكتب بينه وبينهم عهدًا وميثاقًا،
وجعل شِعاره في ذلك: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}([3]).
وعندما رأى الرسول ما أصاب أصحابه من البلاء على يد
المشركين في مطلع الدعوة، قال لهم: اخرجوا إلى أرض الحبشة،
فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل
الله لكم فرجًا مما أنتم فيه.
ولما حاول موفَدَا قريش تأليب النجاشي على أصحاب محمد (صلى
الله عليه وآله) والوشاية بهم، ردّهما الملك الحبشي، بعد
أن سمع من جعفر بن أبي طالب ما يسحر الألباب، وذلك عندما
قرأ عليه صدرًا من سورة مريم {كهيعص}.
بكى النجاشي واخضلّت لحيته وبكى معه أساقفته، ثم قال
معقّبًا على ما سمعه: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من
مشكاة واحدة، انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبدًا، ثم
خاطب المهاجرين قائلاً: اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي([4]).
لن أزيد، فتاريخ الرسول مليء بهذه المناقب الحميدة التي
أرسى فيها روح التعايش والحبّ بين الناس، وعلى هَدْي هذه
القيم يجب أن نسير ونتبّع، مسلمين ومسيحيين، تعاليم السماء
التي حملها محمد (صلى الله عليه وآله) وعيسى (عليه
السلام)، هداية لبني البشر وسعيًا لتلاقيهم وتواصلهم في
سبيل الأجمل والأنقى والأفضل.
وأنتهز عرض هذه القيم الرسولية الإسلامية لأذكّر بها أصحاب
بعض الصحف العربية الإسلامية، خاصة في الجزائر والأردن
واليمن وغيرها، والذين أقدموا على إعادة نشر الصور
الكاريكاتورية تباهيًا بأسبقية النشر وطمعًا بالكسب
الماديّ دونما نظر إلى ما يجرّه تصرّفهم من إساءة وتجريح
ينطلقان من الذات، مما يدل على صوابية المثل القائل: من
بيت أبيك ضُربتَ، ولأقول لهم، لقد علّمنا الإسلام الوفاء
والإباء وليس التنكّر والطعن في الصميم.
وقد أعطى تصرّف الصحافيين العرب الفرصة للأوروبيين للثناء
على ما فعلوه، كما جاء في البيان الأوروبي الذي صدر بهذا
الشأن.
وهذا يدل على أن كثيرًا منّا بحاجة إلى تدريبٍ نفسي قاسٍ
على أهمية تحصين الذات والقيم أمام النزعات الخارجية التي
ما زالت تُشكّل عند البعض مثار جذبٍ واهتمام.
ومن الباب نفسه الذي انطلقت منه أصوات النّشاز والشتيمة
بحقّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإسلام، انطلقت
أصوات الوفاء والتقدير والإجلال، على ألسنة مئات الشعراء
والأدباء والفلاسفة والمفكّرين، وجميعها صدرت عن إيمان
راسخ وقناعة تامّة بشخصية الرسول وأهمية دوره ورسالته،
وكأن هؤلاء يردّون على كل من تسوّل له نفسه المساس بقدسية
الرسالة المحمدية، وأن الحلّ الساطع والسلم البشري لا
يتمّان إلا باتباع قيم الإسلام العظيم وتعاليم المسيحية،
إنهما دينا الحقّ والنور، والملاذ الآمن من كل الشرور.
يردّ عليهم شاعر ألمانيا العظيم "جوته"، الذي لم يكن يعترض
إذا دَعَوه مسلمًا، قال ما ترجمته:
من حماقة الإنسان في دنياه
أن يتعصّب كل منّا لما يراه
وإذا كان الإسلام معناه أن لله التسليم
فعلى الإسلام نحيا ونموت أجمعين
ومن قصيدة أخرى له، يظهر "جوته" رغبته في الحج إلى مكة لكي
يستروح نسيم الإباء:
إلى هنالك حيث الطهر والحقّ والصفاء
أودُّ أن أقود الأجناس البشرية
وأَنْفُذَ بها في أعماق الأصل السحيق
حين كانت تتلقّى من لدن الربّ
وهي السماء بِلُغَة الأرض([5]).
ويقول الأديب الفرنسي "شانليه":
"إن رسالة محمد، هي أفضل الرسالات السماوية التي جاء بها
الأنبياء قبله، لأنها جاءت إلى الشعوب نقيّة من كل عيب،
وخالية من كل نقص، بل إنه يوجد فيها من التعاليم القيّمة
ما لا يوجد في غيرها من الديانات".
ويعتزّ الفيلسوف الإنكليزي الساخر "برنارد شو" بالدين
الإسلامي والرسول العظيم، حيث رأى أن العالم أحوج ما يكون
إلى رجل في تفكير محمّد، هذا النبي الذي وضع دينه دائمًا
موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع
المدنيات، خالدًا خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بني قومي
قد دخلوا هذا الدين على بيّنةٍ، وسيجد هذا مجاله الفسيح في
هذه القارّة - يعني أوروبا-([6]).
ويصرّح المجري الدكتور إيليوس جرمانوس المولود سنة 1884م،
وهو مستشرق هنغاري جال في البلاد الإسلامية، وخبُر الديانة
الإسلامية، فأسلم وحجّ إلى مكة، له كتاب "الله أكبر" ومما
جاء فيه:
"إن تعاليم القرآن هي أوامر الله، وهي مرشد أبديٌّ للبشر،
وإن محمدًا لأعظم مُصلح ثوري عرفه التاريخ، مؤيدٌ بوحي من
عند الله"([7]).
ومما أدلى به المستشرق الفرنسي "إدوار مونته" (1856 -
1927م) من كتاب له بعنوان: حاضر الإسلام ومستقبله:
"يجب أن يُعَدّ محمد في صفّ أعاظم المحسنين إلى البشرية،
إن الانقياد لإرادة الله تتجلّى في محمد والقرآن، بقوّة لا
تعرفها النصرانية"([8]).
عسى أن تجد أقوال هؤلاء وغيرهم آذانًا صاغية وقلوبًا بيضاء
عند كلّ من تسوّل له نفسه التطاول على نبيّ الرحمة، والدين
الذي أتى به خيرًا وهدى للعالمين، وليدركوا أن الإسلام لن
يمسّه أحد، ولن تقوى تجنيّات من هنا وهناك على النيل من
مقامه العظيم.
انتهى المقال
ـــــــــــــــــــــــــ
[1]
- سلام عبود، السفير، ص19، تاريخ 11/2/2006م.
[2]
- تاريخ الإسلام، حسن إبراهيم حسن، ج1، ص102.
[3]
- سورة
البقرة: من الآية256.
[4]
- نفس المصدر السابق ص88.
[5]
- عالم المعرفة، جوته والعالم العربي، ترجمة د.
عبد الغفار مكاوي، ص237، عدد 194، المجلس الوطني
للثقافة، الكويت، شباط 1995م.
[6]
- الشيخ خليل ياسين، محمد عند علماء الغرب، دار
الأندلس، بيروت، ط1، 1967م ص132الى ص135.
[7]
- المصدر السابق نفسه، ص151.
[8]
- المصدر السابق نفسه ص122.
المراجع
- جريدة السفير، عدد 10317، تاريخ 11/2/2006م
- جريدة السفير، عدد 10312، تاريخ 4/2/2006م
- سيرة ابن هشام، جزء أول، القاهرة،
1336-1337هـ
- تاريخ الإسلام، د. حسن إبراهيم حسن، الجزء
الأول والثاني، مكتبة النهضة المصرية، ط7،
1964م.
- محمد عند علماء الغرب، الشيخ خليل ياسين،
دار الأندلس، ط1، 1967م
- عالم المعرفة، جوته والعالم العربي، ترجمة
د. عبد الغفار مكاوي، عدد 194، شباط 1995م،
الكويت.
|