لما ظهرت أمارة وفاة عبد المطلب جدّ الرسول (صلى الله عليه وآله)، عهد إلى
أبي طالب بكفالة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأوصاه به
قائلاً له: (إني قد عرفت ديانتك وأمانتك فكن لمحمّد كما
كنتُ له)([1]).
وهكذا كان أبو طالب فأحبّه وآثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله،
حتى غدت كل نبضة يختلج بها شريانه نفحةً هنيّةً تترنّم
باسم محمّد، إذا حضر أو غاب، وإذا نام أو استيقظ، وصار
محمّد أقرب إلى نفس أبي طالب من نفسه، حتى راح يرى أن
مهمّته في هذا الوجود - مع ما كان له من مهام الرياسة
والسيادة - أن يقوم على تربية ابن أخيه ويحميه شرّ
الغوائل.
وحتى زوجه فاطمة بنت أسد (رحمها الله)، أمّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(عليه السلام) كانت تسابق زوجها وتنافسه في الاحتفاء
بمحمّد والحرص على إكرامه وإعزازه، حتى كانت تؤخّر الطعام
حتى يحضر [ابنها محمّد] كما كان يحلو لها أن تدعوه، وتدهن
رأسه بالطيب قبل أولادها أو تدّخره له وحده إذا لم يكن من
الطيب إلا ما يكفيه.
والواقع أننا لا نستطيع بهذه العجالة تصوير حبّ أبي طالب وحدبِه الشديد على
النبيّ([2])،
لذلك سنحاول هنا أن نشير إلى بعضٍ من تلك المواقف التّي
يتجلّى فيها إيمان أبي طالب وحرصه على ابن أخيه حتى يصدع
بأمر ربّه وينشر شريعة السّماء السّهلة السمحاء.
رعايته في طفولته:
لقد كان أبو طالب، إيمانًا منه برسالة محمّد التّي سيصدع بها يوم يبلغ
الكتاب أجله، لا يفارق ابن أخيه, فأخذه معه إلى الشام وهو
ابن عشر سنين ليبقى قرير العين قرب عمّه لا يجد الغمّ إلى
نفسه سبيلاً.
مع بحيرة الراهب:
ولكي نقف على مدى الرّعاية التّي كان يشمل بها ابن أخيه, يجدر بنا أن نشير
إلى الرّحلة الثانية التي قام بها أبو طالب على رأس تجارة
كبيرة إلى الشام، كان قد أوقر الإبل، حتى إذا التقى
[بحيرة] الراهب في بادية الشام، ورأى هذا الأخير الغمامة
التي كانت تظلّل النبي (صلى الله عليه وآله)، أسرع إلى أبي
طالب وخوّفه على ابن أخيه، وأخبره بما ينتظره من النبوّة
والرسالة التي ستُخرِج الناس من الظلمات إلى النور، عندها
قفل أبو طالب راجعًا مفضّلاً سلامة ابن أخيه على كل الغُنم
مهما تعاظم.
استسقاء أبي طالب بمحمد (صلى الله عليه وآله)([3]):
أقحط أهل البادية وأهل مكة، من احتباس المطر فقال قائل منهم: (اعتمدوا اللات
والعزّى)، وقال آخر: (اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى).
فقام شيخ وسيم حسن الرأي يقول لهم : (أنّى
تؤفكون، وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل).
فقاموا جميعًا إلى أبي طالب يستغيثون ويستنجدون: يا أبا طالب، أقحط الوادي،
وأجدب العيال، فهلمّ فاستسق.
فخرج أبو طالب هو وشيوخ قومه، واخرج محمدًا معه، وكان بعدُ طفلاً، حتى إذا
كانوا في الكعبة، أسند ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه كالضارع
المستغيث، وما في السماء قزعة من سحاب، فأقبل السحاب من
هاهنا وهاهنا، فجلجل الرعد واستهل المطر كأفواه القرب،
فدمعت عينا أبي طالب والتفت إلى ابن أخيه منشدًا الناس([4]):
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
يلوذ به الهلاّك من آل هاشم
وميزان صدق لا يخيس شعيرةً
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد
وجدت بنفسي دونه فحميته
فلا زال للدنيا جمالاً لأهلها
وأيّده رب العباد بنصره
|
|
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فهم عنده في نعمة وفواضل
ووزان صدق وزنه غير غائل
لدنيا ولا يعبا بقول الأباطل
وأحببته حبّ الحبيب المواصل
ودافعتُ عنه بالذرى والكواهل
وشينًا لمن عادى وزين المحافل
وأظهر دينًا حقّه غير باطل
|
خطبة أبي طالب خديجة (عليها السلام)
لمحمد
(صلى الله عليه وآله)وأبعادها:
(الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وجعل لنا بلدًا
حرامًا وبيتا محجوجًا - ورُوي محجوبًا - وجعلنا الحكّام
على الناس ، ثم إن محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به
فتى من قريش إلا رجح عليه برًا وفضلاً وحزمًا وعقلاً
ورأيًا ونبلاً، وإن كان في المال قُلّ فإنما المال ظلّ
زائل وعارية مسترجعة ، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها
فيه مثل ذلك ، وما أحببتم من الصداق فعليّ ، وله والله
بعدُ نبأ شائع وخطب جليل)([5]).
هذه الكلمات التي ردّدها أبو طالب رحمه الله يوم خطب خديجة لمحمد (صلى الله
عليه وآله)، تجعلنا نقف على المنزلة السامية لمحمّد (صلى
الله عليه وآله) من نفس عمّه، فهو لا يوزن بأحد إلا رجح به
نبلاً وفضلاً وعقلاً.
ثم انظر يرعاك الله إلى هذه الرؤية العميقة، وإلى هذا اليقين من المستقبل
وهذا الإيمان بابن أخيه حتى قبل أن يصدع بدعوته.
ثم انظر إلى صيغة القَسم التي تنمّ عن الإيمان إذ أقسم بالله مراهنًا على
مستقبل ابن أخيه ومنبّهًا في روع الحاضرين إلى ما ينتظره
من النبوّة والرسالة.
ومن الجدير أن ننوّه به، أن أبا طالب عِبْر أشعاره وخطبه، حتى قبل الإسلام
ما كان يقسم بغير الله، أو الرب أو الإله.
في حين أن مثل أبي سفيان ممن ادّعوا الإسلام ما حلفوا بالله حتى بعد وفاة
الرسول، وإنما حثّ قومه على تلقّف الزعامة بعد وفاة الرسول
قائلاً لأبنائه: (يا بني أميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة،
فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة
ولا نار، ولا بعث ولا قيامة)([6]).
بينما نجد أن أبا طالب ما حلف حتى قبل إسلامه لا باللات ولا بالعزّى كما
يفعل القرشيون، ولا عُرف عنه أنه جلس إلى صنم من الأصنام
التي كان يجلس إليها القرشيون .
أليس هذا دليلاً على مدى إيمان الرجل بالإله الذي دعا إليه محمّد (صلى الله
عليه وآله) والذي أنشئ على الإيمان به حتى قبل صدوع النبي
بالرسالة...
يتبع =
[1]- الخرائج والجرائح، الراوندي، مؤسسة الإمام المهدي، قم:
1/138؛ وعنه بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2:
17/363 حديث 1 ، و35/83 ، حديث 26 ؛ الاحتجاج ،
الطبرسي، دار النعمان، النجف، 1966: 1/342.
[2]- لمزيد من التفاصيل يراجع: بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2:
ج35 ،
[3]
- راجع : مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، المطبعة
الحيدرية، النجف، ط 1376: 1/119. بحار الأنوار،
مؤسسة الوفاء، ط2: ج 18 ص3.
[4]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/166.
[5]- بحار الأنوار: 35/158 ؛ ورواه غيره باختلاف في لفظه ، راجع
مثلا: تاريخ ابن خلدون، دار إحياء التراث، ط4: ق2
ج2 ص5 ؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، منشورات
المرعشي، قم (طبعة دار إحياء التراث، بيروت)
الطبعة الثانية:14/70.
[6]
- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 9/53.
|