العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = بو طالب (ع) الحامي والكفيل

إيمان أبي طالب:

ثم ألا ترى برفضه لتقاليد الجاهليين، وإنكاره لتكالبهم الشهواني على المنافع المادية بأي ثمن ، أفلا ترى فيها دعائم في بنايته الإيمانية التوحيدية...

وإلا فكيف نفسر الشروط الإيمانية الصارمة التي فرضها حين عزمت قريش على إصلاح جدران الكعبة التي هدمها السيل بعد عشر سنين من زواج محمّد بخديجة، فقد شرط أبو طالب أن لا ينفق فيه إلا من طيب المكاسب ، وأن لا يدخل في بنائها مال من ظلم ولا عدوان([1]).

أليس في هذه الشروط التي كانت فيما بعد من صلب العقيدة الإسلامية التي فرضت مثل هذه الشروط في كل بناء أسس على تقوى، أليس هذا دليلاً على مدى تغلغل العقيدة الإيمانية في جبلّة هذا العظيم ، ونشأته على تبنّيها حتى قبل أن يعلن النبي (صلى الله عليه وآله) تعاليم الإسلام...

وهكذا - كما لاحظنا - فقد جاءت بأبي طالب لرياسة الناس جميعًا في مكة سيادة طريفة من الشجاعة والعفّة والسخاء والسن والتجارب والحكمة وحسن البيان، فقد نُسجت بأخلاقه الغرّ كل أكرومة، فقد اختاره الله رجلاً أبلج، متين الكاهل، شغب الشكيمة، لا يميل به الهوى، ولا تدنو من خلقه مذمّة ولا ضعف، تفزع إليه قريش وأهل البادية في نوائبهم، فيخفّ لهم وينجدهم.

فورث صفات أبيه عبد المطلب من حلم وجود وحكمة فأحلّ ما أحلّ، وحرّم ما حرّم، فكان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ، وينهاهم عن دنيئات الأمور ، وكان يعتقد بالآخرة ، ورفض عبادة الأصنام، ووحّد الله سبحانه ، وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها ، وجاءت بها السنة منها الوفاء بالنذر ، والمنع من نكاح المحارم ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة ، وتحريم الخمر ، والزنا ، وأن لا يطوف بالبيت عريان([2]).

هكذا كان أبو طالب قبل الإسلام حتى غدا محتذىً ومقتدىً، ولا أدلّ على ذلك من جواب أكثم بن صيفي، حكيم العرب، حين سئل: (ممن تعلّمت الحكمة والرياسة والحلم والسيادة؟

فقال: من حليف الحلم والأدب، سيد العجم والعرب، أبي طالب بن عبد المطلب)([3])..

حتى معاوية بن أبي سفيان الذي عُرف بعدائه للطالبيين، استشهد بحلم أبي طالب وجعله هاديًا له يوم جرى نزاع ومشاحنة بينه وبين صعصعة وابن الكوّاء، فقال معاوية : لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول: (قابلت جهلهم حلمًا ومغفرة... والعفو عن قدرة ضرب من الكرم! .. لقتلتكم)([4]).

أبو طالب والبعثة النبويّة:

لما بُعث النبي (صلى الله عليه وآله)، وصدع بالأمر امتثالاً لقوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}([5]) ونزل قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}([6])، أجمعت قريش على خلافه، وكادت له المكائد، وتربّصت به الغوائل، وقعدت له كل سبيل، فانبرى أبو طالب العم الحادب، يدعم موقف ابن أخيه ويهدّدهم.

عندها بيّتت قريش نيّتها على قتل محمّد بيد مجرم غريب، حتى لا تؤخذ بتِرَته عشيرةٌ ولا بطنٌ من بطون قريش.

ترامى إلى أبي طالب ما بيّتته قريش، فأنشأ يرقب محمدًا ولا يدع يومًا يمرّ دون أن يراه في كل صباح ومساء.

ومرّت ليلة غاب فيها محمّد، وطلبه أبو طالب فلم يجده، فتوالت على خاطره الظنون والهواجس خشية أن يكون قد عرض لمحمد أحد بسوء، (فجمع أبو طالب في بيته سبعين رجلاً قد اختارهم من بني هاشم، ثم قال : ليأخذ كل منكم حديدة صارمة، ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم، فيهم ابن الحنظلية - أبو جهل - فإنه لم يغب عن شرّ إن كان محمّد قد قتل)([7]).

وبينا أبو طالب وقومه يعدّون لما همّوا به، إذ أقبل زيد بن الحارثة وكان قد رأى الرسول (صلى الله عليه وآله) عند الصفا، فقفل راجعًا إلى عند الرسول وأخبره بقلق عمه، فقدم مسرعًا، فهشّ العم لاستقباله، وراح يسأله: (يا ابن أخي أين كنت؟ أكنت في خير، قال : نعم)([8])..

ثم إن أبا طالب غدا على النبي فأخذ بيده ووقف به على أندية قريش ومعه فتيان هاشم فقال: يا معشر قريش، هل تدرون ما هممت به، قالوا: لا، فأخبرهم الخبر، ثم قال لفتيانه اكشفوا عما في أيديكم، والتفت مخاطبًا القرشيين متهدّدًا متوعّدًا : (والله لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحدًا)([9])، ورفع عقيرته مخاطبًا النبي:

اذهب بني فما عليك غضاضة والله لن يصلوا إليك بجمعهم
ودعوتني وعلمتُ أنك ناصحي
وذكرت دينًا لا محالة إنه

 

 

اذهب وقرّ بذاك منك عيونا
حتى أوسّد في التراب دفينا
ولقد صدقت وكنت قبلُ أمينا
من خير أديان البرية دينا([10])

 

{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ }([11]):

عندما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله)، أدرك خطورة ما دُعي إليه، ووقف على جسامة ما ندب إلى القيام به، خصوصًا أن في طليعة خصومه أبا لهب عمّه، هذا الذي لم يكن يمتّ إلى أبيه عبد المطلب بشيء من وراثة، لا في طبع، ولا في هيئة، وإنما وقع تحت تأثير خزاعة وهي قبيلة أمّه والتي كانت تحمل الحقد والإصرار على الضغينة، ولا سيما لبني قصيّ وبني عبد مناف، الذين هم آباؤه، لأن بني قصي كانوا قد قهروا خزاعة، وصارت إليهم سيادة الكعبة دونهم، كذلك جاء أبو لهب من عنصرين متضادين ، وقسم له أن يرث الأدنى ..

نزلت الآية .. فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) بني عبد المطلب، فحضروا بمن فيهم أبو لهب.

فقام النبي يحذّرهم مغبّة الشرك وعبادة الأصنام، ويدعوهم إلى عبادة واحد أحد، فرد صمد، بيده ملكوت السماوات والأرض، وأعلمهم تفضيل الله إياهم واختصاصه لهم إذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم.

فشق ذلك على أبي لهب وتهدّد وتوعّد ومضى يقول : (خذوا على يد صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه قتلتم وإن تركتموه ذللتم).

عندها وقف أبو طالب في وجه أبي لهب قائلاً: (يا عورةُ، والله لننصرنّه ولنعيننّه).

ثم التفت إلى الرسول قائلاً له : (يا ابن أخي إن أردت أن تدعو إلى ربك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح)([12]).

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــ

[1] - تاريخ اليعقوبي: 2/19.

[2] - الصحيح من السيرة، السيد جعفر مرتضى، دار الهادي، ط4 :  5/188. نقلا عن السيرة الحلبية: 1/4.

[3]- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء،ط2: 35/134

[4]- مستدرك سفينة البحار، مؤسسة النشر الإسلامي، ط 1419هـ : 7/192.

[5] - سورة الحجر من الآية 94.

[6] - سورة الأنبياء من الآية 98.

[7] - الغدير، الأميني، دار الكتاب العربي، ط3، 1967: 7/349 ، نقلا عن ابن سعد الواقدي في الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت: 1/203.

[8] - المصدر السابق: 7/349.

[9] - المصدر السابق: 7/349.

[10]- المصدر السابق: 7/351. ؛ بحار الأنوار: 35/124 ؛  وروي في مصادر أخرى باختلاف يسير ومنسوبًا إلى أبي طالب في واقعة أخرى راجع مثلاً:  مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، المطبعة الحيدرية، النجف، ط 1376: 1/53 ؛ بحار الأنوار: 35/147 ؛ تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت: 2/31 .

[11] - سورة الشعراء الآية 214

[12] - تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت: 2/27؛ سبل الهدى والرشاد،دار الكتب العلمية، ط1: 2/323،

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس    أرشيف المجلة     الرئيسية