العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = بو طالب (ع) الحامي والكفيل

ويروى لأبي طالب أنه قال:

يا شاهد الله عليّ فاشهد

 

 

آمنت بالواحد ربّ أحمد

 

من ضلّ في الدين فإني مهتدي([1])

وهنا يجدر بنا أن ننوّه بعمة النبي [صفيّة] رحمها الله، وهي أخت أبي لهب لأمه وأبيه، فصاحت بأخيها: (أي أخي، أيحسن بك خذلان ابن أخيك وإسلامه، فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبيّ، فهو هو)([2]).

تكبكب ملأ من قريش، كبراء وأشرافًا، وجاؤوا إلى أبي طالب في داره ، فقالوا له: (أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك تقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا)([3]).

وراحوا يطالبون أبا طالب بأن يكفّ النبي عن سبّ آلهتهم، ويكفون هم عن التعرّض له فلا يقاتلهم ولا يقاتلونه، ولكنه يأبى الرسول.

ويقول النبي : (يا عمّ والله لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي، ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه)([4]).

عند ذلك انثنى أبو طالب إلى ابن أخيه، وأقبل إليه قائلاً بعد أن رأى إجماع قريش وتألّبهم على الرسول: (اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشيء أبدًا)([5]):

لا يمنعنك من حق تقوم به
فإن كفّك كفي إن بُليت بهم

 

 

أيدٍ تصول ولا سلق بأصوات
ودون نفسك نفسي في الملمّات([6])

 

دخل النبي إلى الكعبة، وشرع يصلي لله الواحد الأحد، فقام أبو جهل يغري بمن يفسد على الرسول صلاته، فقام ابن الزّبعرى وتناول فرثًا ودمًا وألقى ذلك عليه، فلما رجع النبي إلى عمه أبي طالب ورآه، سلّ سيفه ومضى معه محمد، فلما رأوه جعلوا ينهضون.

فأرسل فيهم صيحة مجلجلة : (والله لئن قام أحد جلّلته بسيفي).

فقعدوا حتى دنا منهم، ثم قال للنبي (صلى الله عليه وآله): (يا ابن أخي من الفاعل هذا؟)

فأشار للمعتدي، فأمر أبو طالب غلامه أن يحمل الفرث والدم فيلطخ به وجه ابن الزّبعرى، وروي: أنه أمر عبيده أن يمرّوه على أسبلة القوم([7])، أي ما على الشارب من الشعر، ثم مضى أبو طالب ومعه الرسول وهم واجمون لا ينبسون..

قطيعة قريش لبني هاشم([8])

لما رأى المشركون موقف أبي طالب (عليه السلام) من نصرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وسمعوا أقواله، اجتمعوا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم ، وبني المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم ، فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ، تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم.

وأجمع كفار مكة على ذلك.

عندما رأى أبو طالب اجتماع قريش وتألّبهم، دعا بني هاشم، فأمرهم بهجر بيوتهم جميعًا في مكة، رجالاً ونساءً، وذلك حفاظًا على الرسول، وليذهبوا جميعًا فيدخلوا في شِعب أبي طالب، قريبًا من مكة عند الجمرة الوسطى.

وقد ارتأى أبو طالب على قومه هذه النُقلة، لأن بيوتهم في مكة متفرقة، وتَنَقُّل الرسول بينها لا يحميه، ويعرّضه للأذى .

فارتحل بنو هاشم لشِعب أبي طالب، وتركوا متاجرهم وأخلوا ديارهم.

وقد اجتمع القرشيون بما فيهم أبو لهب، أن يمنعوا السلع من أن تباع لأهل الشِعب حتى يموت أهله محاصرين.

ولكن القائد الحكيم، سهر على الشِعب وأهله، فأنشأ يُسَهّل كل مطلب للمحاصرين مهما توعّر، ويصفّي كدرة الزمان كلما تكدّر، ويوزّع الطعام على من يفرغ طعامه، ومن اللباس على من يحترق ثوبه، حتى نفد ما لديه وفرغ ما عنده، فدار عليهم بالصبر يدعو إليه، والجَلَد يحثّ عليه، حتى حلا لهم الجوع، وطاب العذاب، حلاوة ذاقوا فيها شبع الجنة، ونهلوا من أنهار الفردوس، كل ذلك في سبيل حماية الرسول، وصونه، من أن يعرض له أحد بشرّ، ووزّع أبو طالب أعمال الحماية بين أربعين رجلاً، جعل عليهم الحراسة ليلاً ونهارًا، وأوكل إلى قسم منهم أن يقفوا في طريق القبائل في موسم العمرة والحج ليشتروا منهم طعامًا إذا غابت عنهم عيون قريش.

وهنا كان أبو طالب - حفاظًا منه على الرسول وإيمانًا منه بدعوته - يطلب إلى محمد أن يغدو إلى فراشه كل ليلة مبكرًا قبل أن يلجأ الناس جميعًا إلى فراشهم، حتى أهل بيته، كي يراه الناس جميعًا في فراشه، ويعلموا موضعه، فإذا أوى كل إنسان إلى فراشه وهدأ الشِعب في سكون الليل وسكون النوم، دلف الشيخ الهرم خفيفًا متمهّلاً على أطراف قدميه، فأخذ النبي إلى فراشٍ غير الذي نام فيه، وجعل في فراش النبي ابنه عليًا، حتى إذا حدّثت نفس أحد بشرّ، كان المقتول ابنه بدل الرسول، وقد أوصى عليًا بالصبر، لأن الرسالة الكبيرة تحتاج إلى تضحيات كبيرة ، وأنشأ يقول له([9]):

اصبرنْ يا علي فالصبر أحجى
قد بذلناك والبلاء عسير
لفداء الأغرّ ذي الحسب الثاقب
إن رمتك المنون بالنَبْل فاصبر
كل حيٍّ وإن تطاول عمرًا

 

 

كل حيّ مصيره لشعوب
لفداء النجيب وابن النجيب
والباع والفناء الرحيب
فمصيب منها وغير مصيب
آخذ من سهامها بنصيب

 

أصرّ القرشيون على مقاطعة الشِعب وأهله، ولكن هذا لم يمنع استيقاظ ضمير الحق في بعض النفوس، أمثال هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية المخزومي، ومطعم بن عدي، وزمعة بن الأسود، فتلاوموا على كتابة الصحيفة، وعلى المضي في تنفيذها بغير حق ولا رعاية حرمة، فتسالموا على مدّ يد المعونة وإرسال المؤنة للمحاصرين.

واتفق هؤلاء الصِّيد الذين عادت لنفوسهم النخوة العربية على أن يلتقوا إذا ذاب الشفق وأبهم الليل، بأعلى مكة عند [خطم الحجون]، ومضوا إلى الكعبة حين سقطت الشمس وعلا النهار، واستوى الضحى، ليعملوا على تمزيق العهد الذي أمضوه بمقاطعة شعب أبي طالب.

وبينا هم كذلك في وجوم وصموت، إذ يرتفع من باب المسجد صوت شيخ مهيب وقور يهيب بهم، [إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة فأبقت اسم الله وأكلت غدركم وتظاهركم علينا بالظلم].

وفتحت الكعبة، وتسابقت الأيدي إلى الصحيفة، فجمعها في يده [مطعم بن عديّ] لتسلم من أيدي الناس، وخرج بها إلى ظاهر الكعبة، ففتحوها، فراعهم ما رأوا أمام أعينهم، ورقة مأكولة غير اسم الله تعالى كما قال أبو طالب، وكما أخبره الصادق الأمين، فدهش الناس واعتراهم الذهول، إذ إن الأرضة قد أتت على كل كتابة إلا كلمتين اثنتين ، هما : (باسمك اللهم)، قدّستها أرضة التراب حين استهان بها جبابرة قريش.

يتبع = 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/165 ، وتروى هذه الأبيات أيضًا لعلي (عليه السلام).

[2] - سبل الهدى والرشاد، دار الكتب العلمية، ط1: 2/323.

[3] - بحار الأنوار: 9/143.

[4] - المصدر السابق: 9/143.

[5]- تاريخ الطبري، مؤسسة الأعلمي، بيروت: 2/67.

[6]- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/164.

 [7]- نقلت هذه الرواية بالمعنى: راجع: مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، المطبعة الحيدرية، النجف، ط 1376: 1/54 . بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 18/187.

[8] - راجع هذه الحادثة في : بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/91-92 ؛ سيرة النبي (ص)، ابن هشام الحميري، ط1963: 1/234.

[9] - روضة الواعظين، الفتّال النيسابوري، منشورات الرضي، قم: ص54 . وروي باختلاف يسير في : الفصول المختارة ، الشيخ المفيد، دار المفيد، بيروت، ط2: ص59 ، وغيره

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس    أرشيف المجلة     الرئيسية