عندها صاح الحمقى من قريش: هذا من سحر ابن أخيك، فغضب أبو طالب وثارت
حميّته، ونادى من جاء معه من قومه: يا بني عبد المطلب،
هلمّوا إلى أستار الكعبة، حتى إذا كانوا بين البناء
والستار، دعا ربّه رافعًا يديه وأهلُه من خلفه يلبّون:
(اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا، واستحل ما يحرم
عليه منا، ثم نادى أهله، فدخلوا الكعبة من كل مكان من شعب
أبي طالب، وقد بدا القرشيون مخذولين، منكِّسي رؤوسهم، قد
ثقل ما حملوه من ذنوب وأوزار، وأبو طالب يردّد منشدًا([1]):
إذا اجتمعت يومًا قريش لمفخر
وإن حَضَرت أشراف عبد منافها
ففيهم نبي الله أعني محمدّا
تداعت من قريش غثّها وسمينها
|
|
فعبد منافٍ سِرُّها وصميمُها
ففي هاشم أشرافها وقديمُها
هو المصطفى من سرّها، وكريمُها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومُها
|
أنت النبيُّ محمد
لمسوّدين أكارم
ولقد عهدتك صادقًا
ما زلت تنطق بالصواب
|
|
قرم أعزّ مسوَّد
طابوا وطاب المولد
في القول لا تتزيّد
وأنت طفل أمرد([2])
|
وقال في أمر الصحيفة أيضًا([3]):
إلا أبلغا عني على ذات بينها
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمدًا
وإن عليه في العباد محبّة
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى([4])
فلسنا وبيت الله نسلم أحمدًا
ولمّا تبِن منّا ومنكم سوالف
|
|
لؤيًا وخُصّا من لؤي بني كعب
رسولاً كموسى خُطّ في أول الكتب
ولا حيف فيمن خصّه الله بالحب ويصبحَ من لم
يجنِ ذنبًا كذي ذنب
لعرّاء من عضّ الزمان ولا كرب
وأيدٍ أُترّت([5])
بالمهنّدة الشهب
|
(صِلْ جناح ابن عمك)([6]):
في أحد الأيام، رأى أبو طالب ابنه عليًا يقف عن يمين محمد (صلى الله عليه
وآله)، يصلي كما يصلي الرسول، فأمر ابنه جعفر: (صل جناح
ابن عمك)، فاستجاب الابن البار للأب الحادب فوقف يصلي إلى
يساره، ، ومضى أبو طالب يردّد:
إن عليًا وجعفرًا ثقتي
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
والله لا أخذل النبي ولا
|
|
عند ملمّ الزمان والنُّوَب
أخي لأمي من بينهم وأبي
يخذله من بنيّ ذو حسب
|
خاتمة:
وبعدُ .. هذا هو أبو طالب شيخ البطحاء، وحامي حماها، ذؤابة أكفّائها، يؤمن
برسالة محمد، وبربّ محمد، فينافح عنهما ويناضل دونهما، حتى
يلاقي من الويلات، ويعاني من معاداة الأهل ومجافاة
الإخوان، حتى حبس في شِعبه، كل ذلك حفاظًا على صاحب
الرسالة السمحاء، وصونًا له من أن تناله يد تتربص بشرّ،
وذهب به الحفاظ على ابن أخيه أن ضحّى بابنه عليًا وجعله
يبيت في فراش الرسول ثم ينقله إلى مكان آخر.
فرحمك الله أبا طالب، أيّ إيمان هذا الإيمان الصلب الذي عمر به قلبك ، وأي
إسلام صحيح هو إسلامك، حتى وقفت نفسك وذريتك، درءًا عن
الرسول وعن رسالته، وحتى كان وقوفك إلى جانب الرسول
وإيمانك بدعوته مصدر فرح للمسلمين في بداية الدعوة، حتى
عبّر أبو بكر عن ذلك بقوله: (أما والذي بعثك بالحق لأنا
كنت أشدّ فرحًا بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي - أبي
قحافة -)([7]).
ولهذا حق له أن يقول فيه أمير المؤمنين : (والذي بعث محمدًا بالحق نبيًا لو
شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله..)([8]).
إلا أن أبا طالب كما يقول إمامنا الصادق (عليه السلام): (من رفقاء النبيين
والصديقين)([9])،
وطلب الدليل على إسلامه وإيمانه كمن يطلب دليلاً على وجود
الشمس في رابعة النهار..
طلب الدليل على الضحى رأد الضحى
|
|
يقضي بفقد ضياء عين الطالب
|
هذا الإيمان الذي تجلّى لنا بأشد ما يكون الوضوح عبر وقوفه إلى جانب محمد
وحمايته له، والى جانب هذه الأشعار التي عرضنا لبعض منها
في هذه العجالة، والتي تزخم إيمانه العميق بالإله الواحد
الأحد، وكيف يخطر في بال أو يرقى شك إلى إيمان أبي طالب
وهو كما قال الإمام زين العابدين :(إن الله تعالى نهى رسول
الله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد
من السابقات إلى الإسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات)([10]).
فرحمك الله أيها المؤمن الصابر المحتسب، الذي ما وَجَد رسول الله على أحد
وَجده على فقدك ، حتى سمّى عام وفاتك بعام الحزن، وكيف لا
يكون ذلك وقريش ما تجرأت على النبي ما دمت حيّا ، فقضيت
اثنين وأربعين عامًا تنافح وتدافع عن محمد ودعوته،حتى قبضك
الله إليه، وما ذهبت عن هذه الدنيا حتى تركت من بعدك ابنك
عليًا ليقوم بالأمر ويقف في وجه كل من تسوّل له نفسه
بمحاربة الرسول،ولقد أجاد ابن أبي الحديد بقوله([11]):
فلولا أبو طالب وابنه
فذاك بمكة آوى وحامى
فلله ذا فاتحًا للهدى
|
|
لما مثل الدين شخصًا فقاما
وذاك بيثرب خاض الحماما
ولله ذا للمعالي ختاما
|
انتهى المقال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/131
[2]
- شرح نهج البلاغة: 14/77.
[3]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/159
[4]
- عن سيرة ابن هشام (الثرى) بدل (الزبى).
[6]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/121
[7]
- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، منشورات المرعشي، قم
(طبعة دار إحياء التراث، بيروت) الطبعة الثانية:
14/68.
[8]
- الأمالي،الطوسي، دار الثقافة، قم، ط1 : ص305 بحار
الأنوار: 35/69 .
[9]
- كنز الفوائد ، الكراجكي، مكتبة الصفوي، قم، ط3، 1410هـ:
ص80.
[10]
- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، ط2: 35/157 . شرح النهج، ابن
أبي الحديد: 14/69.
[11]
- الاحتجاج، الطبرسي، منشورات دار النعمان، النجف الأشرف :
ج1 هامش ص350 . كتاب الأربعين، الماحوزي، ط1،
1417: هامش ص206
|