تمهيد:
هذه الرسالة
في [بيان حكم المال الذي يتعذر إيصاله لمالكه]، حرّرها
المؤلف (قدس سره) في 9 ربيع الثاني1390هـ،
الموافق21نيسان1975م. وذكر في مقدّمتها السبب في تحريرها
فقال: [لاحظت أنَّ حكم المال الذي يتعذر إيصاله لمالكه
مختلف، مثل حكم المال المجهول المالك، ومثل حكم المال
الحرام المختلط بالحلال الذي لا يُعرف مالكه، ومثل حكم
المظالم التي انشغلت بها ذمة الناس ولا يعرفون أربابها،
ومثل حكم الدَّين الذي غاب صاحبه غيبة منقطعة، ومثل حكم
اللقطة، وما أشبه ذلك، فإنَّ هذه الأنواع من الأموال وإن
كان يجمعها جامع واحد وهو تعذّر إيصال المال إلى مالكه
إلاَّ أنًّ لها صورًا كثيرة تختلف أحكامها باختلافها، وقد
يصعب على الفقيه مراجعة كلٍّ في مورده والإحاطة بمدركه،
لأنَّ بعضها ليس له عنوان في الفقه يخصّه، فقد يذكرها فقيه
في مورد من كتابه ويذكرها غيره في مورد آخر تبعًا للمناسبة
التي دعته لذلك، وقد أفرد الفقهاء للّقطة كتابًا مطولاً،
وأسهبوا في كتاب الخمس في حكم المال المختلط بالحرام].
ثم ذكر: أنه
رغم ذلك بقي حكم المال الذي يتعذر إيصاله لمالكه بحاجة إلى
التحقيق والإيضاح، ومن أجل ذلك أفرد له هذه الرسالة.
مقدمة:
أنواع المال
الذي لا يمكن إيصاله لمالكه كثيرة وأحكامها مختلفة([1]):
أحدها:
اللقطة، وقد أفرد الفقهاء لها كتابًا خاصًا لاختلاف
مواردها وأحكامها.
ثانيها:
المال الحرام الذي اختلط بالحلال، وقد تعرض له الفقهاء في
كتاب الخمس.
ثالثها:
ما يتركه الميت الذي ليس له وارث أو لا يعلم وارثه، وقد
تعرض له الفقهاء في كتاب المواريث في ميراث الإمام (عليه
السلام).
رابعها:
تراب الصّاغة وقد تعرّض له الفقهاء في كتاب الصرف، ويلحق
به القصاصات التي تجتمع عند الخيَّاطين من أقمشة الناس
التي يخيطونها لهم، وفضلات الأخشاب التي تجتمع عند
النجّارين من أخشاب الناس الذين كلّفوا بصنعها لهم أبوابًا
وما أشبه ذلك، ومنها ما يتساقط من الباعة من الغلّات
والأطعمة في المحلات التي تباع فيها ويختلط بعضه ببعض ولا
يتميّز.
خامسها:
المال المجهول المالك كالأموال التي ينساها أربابها عند
غيرهم، وقد يكون منها الأموال التي يحملها السيل والريح.
سادسها:
الأموال التي تشتغل ذمّة المكلف بها وهي لغيره، وقد تكون
معلومة المقدار والجنس وقد تكون مجهولة، وقد تكون من
الأعيان أو من المنافع.
سابعها:
المال الذي يودعه اللص عند المسلم.
إذا عرفت هذا فاعلم:
أن الكلام في
المال الذي لا يمكن إيصاله لمالكه يقع في مقامين:
المقام
الأول: في سرد النصوص المتعلقة فيما نحن فيه وهي كثيرة:
الأولى: موثقة إسحاق بن عمار، بل صحيحته، قال: (سألت أبا إبراهيم (عليه السلام)
عن رجل نزل في بعض بيوت مكة، فوجد فيها نحوًا من سبعين
درهمًا مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة،
كيف يصنع؟ قال (عليه السلام): يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم
يعرفونها، قلت: فإنْ لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها)([2]).
الثانية: مصحّحة يونس بن عبد الرحمن، قال: (سُئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام)
وأنا حاضر، إلى أن قال: فقال: رفيق كان لنا بمكة فرحل إلى
منزله، ورحلنا إلى منازلنا، فلما أن صرنا في الطريق أصبنا
بعض متاعه معنا، فأي شيء نصنع به؟ قال (عليه السلام):
تحملونه حتى تحملوه إلى الكوفة، قال: لسنا نعرفه ولا نعرف
بلده، ولا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذا فبعه وتصدق
بثمنه، قال له: على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية)([3]).
وفي رواية
الكليني: (تحملونه حتى تلحقوهم بالكوفة، فقال يونس: قلت
له: لست أعرفهم ولا ندري كيف نسأل عنهم؟ قال: فقال: بعه
وأعطِ ثمنه أصحابك، قال: فقلت: جعلت فداك، أهل الولاية؟
فقال: نعم)([4]).
الثالثة:
ما رواه المشايخ الثلاثة مسندًا، والمفيد، قال: (سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من
اللصوص دراهمَ أو متاعًا، واللصّ مسلم، هل يردّ عليه؟
فقال: لا يردّه، فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، وإلا
كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولاً، فإن أصاب
صاحبها ردّها عليه، وإلا تصدق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك
خيَّره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر فله الأجر وإن
اختار الغرم غرم له، وكان الأجر له)([5]).
قلت: يظهر من
تتمة الرواية أنه يعلم أنّ المال ليس للصّ، ولا ريب أنه
ليس من اللقطة، بل هو من مجهول المالك، ولكن مقتضى عموم
التنزيل في قوله (عليه السلام) (هو بمنزلة اللقطة) هو وجوب
التنذير وما يتبعه من التصدّق، فلا يختلف حكمه حينئذ عن
حكم مجهول المالك، ومورد هذه الرواية المال المعلوم عينًا،
الذي يعلم اللصّ صاحبه، ولكن مَنْ بيده المال لا يعلمه.
الرابعة:
خبر علي بن أبي حمزة، قال: (كان لي صديق من كتَّاب بني
أمية..) ثم ذكر دخوله على الصادق (عليه السلام) وأنه قال
له: (إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً
كثيرًا، وأغمضت في مطالبه..) إلى أن قال: (جعلت فداك، فهل
لي مخرج منه؟ قال (عليه السلام): إن قلت لك تفعل؟ قال:
أفعل. قال له: فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم، فمن عرفت
منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك
على الله عزّ وجل الجنّة، فأطرق الفتى طويلاً، ثم قال له:
لقد فعلت، جعلت فداك، قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا
إلى الكوفة فما ترك شيئًا على وجه الأرض إلا خرج منه، حتى
ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت له قسمة، واشترينا
له ثيابًا، وبعثنا إليه بنفقة، قال: فما أتى عليه إلا أشهر
قلائل حتى مرض فكنَّا نعوده، قال: فدخلت يومًا وهو في
السَّوْق([6])
قال ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي وفى لي والله صاحبك،
قال: ثم مات، فتولينا أمره، فخرجت حتى دخلت على أبي عبد
الله (عليه السلام) فلما نظر إليّ قال لي: يا عليّ وفينا
والله لصاحبك.. الحديث)([7]).
قلت: وهذه
الرواية ظاهرة في وجوب التصدّق بالمال المجهول المالك
المعلوم العين.
الخامسة:
صحيحة زرارة قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل
يكون عليه الدَّين لا يقدر على صاحبه، ولا على وليّ له،
ولا يدري بأيّ أرض هو؟ قال: لا جناح عليه بعد أن يعلم الله
منه أن نيّته الأداء)([8]).
قلت: هذه
الرواية لا شاهد فيها، نعم يمكن أن تكون الروايات الآنفة
مبيِّنة لها.
السادسة:
صحيحة معاوية بن وهب، قال: (سئل أبو عبد الله (عليه
السلام) عن رجل كان له على رجل حقّ ففُقِد، ولا يدري أحيُّ
هو أم ميِّت ولا يُعرف له وارث ولا نسب ولا بلد، قال:
اطلبه، قال: إنَّ ذلك قد طال، فأصَّدق به؟ قال: اطلبه)([9]).
السابعة:
موثقة هشام بن سالم، قال: (سأل حفص الأعور أبا عبد الله
(عليه السلام) وأنا عنده جالس، قال: إنه كان لأبي أجير كان
يقوم في رحاه، وله عندنا دراهم وليس له وارث، فقال أبو عبد
الله (عليه السلام): تدفع إلى المساكين، ثم قال: رأيك
فيها، ثم أعاد عليه المسألة، فقال له مثل ذلك، فأعاد عليه
المسألة ثالثة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) تطلب
وارثًا فإن وجدت وارثًا وإلا فهو كسبيل مالك، ثم قال: ما
عسى أن يصنع بها؟ ثم قال: توصي بها، فإن جاء طالبها وإلا
فهي كسبيل مالك)([10]).
الثامنة:
صحيحة هشام بن سالم، قال: (سأل خطَّاب الأعور أبا إبراهيم
(عليه السلام) وأنا جالس فقال: إنه كان عند أبي أجير يعمل
عنده بالأجرة ففقدناه وبقي من أجره شيء ولا يعرف له وارث،
قال فاطلبوه، قال: قد طلبناه فلم نجده قال: فقال: مساكين ـ
وحرّك يده ـ قال: فأعاد عليه، قال: اطلب واجهد فإن قدرت
عليه، وإلا فهو كسبيل مالك حتى يجيء له طالب، فإن حدث بك
حدث فأوصِ به إن جاء لها طالب أن يدفع إليه)([11]).
قلت: رواية
هشام الأولى صريحة في وجوب التصدق، وإلحاح حفص يبعث على
الريب فيما تضمنه ذيلها، والثانية صريحة فيما تضمنه ذيل
الأولى، ويمكن حملها عليها جمعًا، ثم إن ظاهر الثانية بقاء
أجرته في ذمّة أبيه، بخلاف الأول، هذا واحتمال وحدة
الواقعة في الروايتين قريب، ولكن السند مختلف والسائل
أيضًا مختلف، ومن البعيد أن يكون حفص هو خطّاب.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
-
اعلم أنَّ أقسام المال الذي يتعذر إيصاله لمالكه
ثلاثة لا غير:
أولها:
العين الخارجية المتميزة، التي لا يمكن إيصالها
لمالكها إما لجهله به، وإما لجهله بمكانه مع علمه
به، وإما لمانع يمنع من الوصول إليه مع علمه به
وبمكانه.
ثانيها:
العين الخارجية المشتبهة بغيرها مع تعذّر تمييزها،
كالمال الحرام المختلط بالحلال اختلاطًا يمنع من
تمييزها، وهذا الاختلاط قد يكون مؤديًا للإشاعة
كاختلاط الزيت والحنطة بمثليهما، وقد لا يكون كذلك
كالشاة في القطيع.
ثم إنه قد يكون معلوم الجنس والمقدار، وقد يكون
مجهول الجنس والمقدار كما لو علم بوجود مال محرم
في أعيان ماله ولكنه لا يدري أنه صاع أو صاعين على
تقدير كونه من الأطعمة أو واحد أو اثنين على تقدير
كونه من الحيوانات، وقد يكون معلوم الجنس ومجهول
المقدار كما لو علم أن في ماله حنطة مغصوبة يجهل
مقدارها، وقد يكون معلوم المقدار ومجهول الجنس كما
لو علم أنَّ في ماله صاعًا في مثله، ولكنه لا يعلم
أنه في الزبيب أو في الحنطة أو غيرهما مما يكال
بالصاع، وكما لو علم بوجود حيوان واحد في ضمن ما
يملك من أصناف الحيوانات ولكنه لا يدري أنها بقرة
أو شاة أو غيرهما.
ثالثها:
المال الذي يكون في الذمّة، وهذا المال قد يكون
معلوم الجنس والمقدار، وقد يكون مجهولهما، وقد
يكون معلوم الجنس ومجهول المقدار، وقد يكون معلوم
المقدار ومجهول الجنس، وتأتي الصور الثلاثة
المتقدمة بالنسبة للمالك في جميع هذه الأقسام (منه
قده) .
[2]
- الوسائل، ب 5 من أبواب اللقطة ح3 .
[3]
- الوسائل، ب 7 من أبواب اللقطة ح2.
[4]
- الكافي، دار الكتب
الإسلامية، ط3: 5/309، حديث 22.
[5]
- الوسائل، ب18 من أبواب اللقطة ح1.
[7]
- الوسائل، ب47 من أبواب ما يكتسب به ح1.
[8]
- الوسائل، ب22 من أبواب الدَّين والقرض ح1.
[9]
- المصدر السابق، نفس الباب ح2.
[10]
- المصدر السابق، نفس الباب ح3.
[11]
- الوسائل، ب 6 من أبواب حكم ميراث الخنثى وما
أشبهه ح1.
|