التاسعة:
صحيحة داوود بن أبي يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: (قال: إني قد أصبت مالاً وإني قد خفت فيه على نفسي،
ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلصت منه، قال: فقال له أبو
عبد الله (عليه السلام): والله أن لو أصبته كنت تدفعه
إليه؟ قال: إي والله، قال: فأنا والله ما له صاحب غيري،
قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال:
فاذهب، فاقسمه في إخوانك، ولك الأمن مما خفت منه، قال
فقسمته بين إخواني)([1]).
قال في
الوسائل ورواه الصدوق بإسناده عن الحجّال، قال الصدوق: كان
ذلك بعد تعريف سنة.
العاشرة:
صحيحة زرارة، قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن
اللقطة؟ فأراني خاتمًا في يده من فضّة، قال: إن هذا مما
جاء به السّيل، وأنا أريد أن أتصدّق به)([2]).
قلت: التعريف
بما أتى به السّيل متعذّر، فيجري عليه حكم مجهول المالك،
وأما صحيحة داوود فظاهر الصدوق حملها على اللقطة اجتهادًا،
ويحتمل أن يكون ما ذكره رواية مرسلة، وعلى كل حال فقوله
فيها (إني قد أصبت مالاً)، ليس ظاهرًا في كونه بنحو اللقطة
ولا في كونه بطريق آخر.
ومن أجل هذا
يمكن حملها على كل من مجهول المالك وعلى اللقطة التي لا
يمكن تعريفها، والجامع بينهما اليأس عن الوصول لمالكه، كما
يشهد بذلك قول السائل: (ولو أصبت صاحبه دفعته إليه) ويكون
قوله (عليه السلام): (ما له صاحب غيري) دليلاً على أن هذا
النوع له (عليه السلام) أو على أن ولايته له.
الحادية
عشرة: رواية نصر بن حبيب صاحب الخان، قال: (كتبت
إلى عبدٍ صالح (عليه السلام)، لقد وقعت عندي مائتا درهم
وأربعة دراهم، وأنا صاحب فندق، ومات صاحبها، ولم أعرف له
ورثة فرأيك إعلامي حالها وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعًا؟
فكتب: اعمل فيها وأخرجها صدقة قليلاً قليلاً حتى يخرج).
قلت: مال
الميت الذي لا وارث له للإمام (عليه السلام)، والنصوص
وافية بذلك، وما يعارضها محمول عليها جمعًا، والظاهر أن
حكم مال الميت الذي لا يمكن معرفة وارثه حكم مال الميت
الذي لا وارث له، على أنه يمكن أن يكون أمره بالتصدق به
تدريجًا في رواية نصر والتصدّق به في رواية داوود
المتقدّمة لكون المال ماله وهو مسلّط عليه.
الثانية
عشرة: رواية الهيثم ابن أبي رَوْح صاحب الخان، قال:
(كتبت إلى عبدٍ صالح (عليه السلام): إني أتقبّل الفنادق
فينزل عندي الرجل، فيموت فجأة ولا أعرفه ولا أعرف بلاده
ولا ورثته، فيبقى عندي كيف أصنع به؟ ولمن ذلك المال؟ قال:
اتركه على حاله)([3]).
الثالثة
عشر:
حسنة محمد بن القاسم بن فضيل بن يسار عن أبي الحسن (عليه
السلام): (في رجل صار في يده مال لرجل ميت لا يعرف له
وارثًا، كيف يصنع بالمال؟ قال: ما أعرفك لمن هو، يعني
نفسه)([4]).
الرابعة
عشرة:
ما ورد من الأمر بالتصدق بغلّة الوقف المجهول أربابه - كما
ذكره شيخنا المرتضى رحمه الله - ولم أجده فيما تتبعت([5]).
الخامسة
عشرة:
الصحيحة إلى علي بن ميمون الصائغ، ولعله حسن، قال: (سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عمَّا يكنس من التراب فأبيعه،
فما أصنع به؟ قال: تصدق به، فإما لك وإما لأهله، قال: قلت:
فإنَّ فيه ذهبًا وفضة وحديدًا، فبأي شيء أبيعه؟ قال: بعه
بطعام، قلت: فإن كان لي قرابة محتاج أعطيه منه، قال: نعم).
السادسة
عشرة:
المصحّحة إلى عليّ الصائغ، قال: (سألته عن تراب الصواغين
وأنَّا نبيعه، قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه، قال:
قلت: لا، إذا أخبرته اتهمني، قال: بعه، قلت: بأي شيء
نبيعه؟ قال: بطعام، قلت: فأي شيء أصنع به؟ قال: تصدق به،
إما لك وإما لأهله , قلت: إن كان ذا قرابة محتاجًا أصِلُه؟
قال: نعم)([6]).
قلت: وجه
الاستدلال بهما هو ظهورهما في جواز التصدّق بثمن ذلك
التراب المعلوم المالك في الجملة لتعذّر إيصاله لأهله بسبب
اختلاطه وتعذّر تمييزه، وعدم وجوب التحلّل من جهة خوف
التهمة التي يتضرر بها المتحلّل ولا يستفيد منها المالك،
لأنَّه لو أراد حقّه بخصوصه لم يشتره منه أحد، ويحتمل أن
يكون لتراب الصاغة موضوعية من جهة عدم اعتناء العقلاء به،
لأن قليله لا يباع، وكثيره لا للواحد عادة أو غالبًا فيكون
مما أعرض عنه مالكه.
مضافًا إلى
تعذّر جمع التراب من كل قطعة مستقلاً أو تعسّره، لكون قيمة
وقت الصائغ الذي ينفقه في حفظه وجمعه وتأمينه من الاختلاط
أكثر من قيمته.
وبالجملة حكم
هذا التراب هو وجوب التصدق به، وما يقال به مما يخالف ذلك
فهو من الاجتهاد في مورد النص([7]).
ثم إنَّ هذه المسألة سيّالة:
منها: ما يجتمع عند الخياطين من القصاصات، ثم بعد اجتماعه
يصبح له قيمة كما هو الحال في هذا الزمان.
ومنها: ما يجتمع من نفايات الأخشاب في معامل النجارة.
ومنها: ما يجتمع في معامل التنك والحديد والصفر.
ومنها: ما يجتمع في محلات بيع الأطعمة من الشعير والحنطة
وسائر الحبوب، مما يتساقط من الباعة أثناء وزنه وإفراغه
ونقله.
ومنها: ما يجتمع في معاصر الزيتون ومطاحن الحبوب وما أشبه
ذلك.
المقام الثاني: في بيان ما يستفاد من النصوص
المذكورة بالنسبة لكل نوع من أنواع المال الذي لا يمكن
إيصاله لأصحابه
وأنواعه كثيرة وأحكامه مختلفة:
النوع الأول: ما يكون عينًا خارجية متميّزة
ويكون معلوم المالك سواء كان معلومًا بالعلم التفصيلي أو
الإجمالي المنجّز، وهذا النوع يجب إيصاله لمالكه أو من
يقوم مقامه، كالولي الخاص أو العام أو الوكيل، فإن تعذّر
فله حكم خاص.
النوع الثاني: ما يكون عينًا خارجية متميزة
ويكون مجهول المالك، كالمال الذي أضاعه صاحبه فوجده آخر،
وهذا هو اللقطة، وحكمه يؤخذ من مباحث اللقطة لأنَّ أحكام
اللقطة مختلفة.
النوع الثالث: ما يكون عينًا خارجية متميّزة
ويكون مجهول المالك بالمعنى الأخص، وذلك كالدراهم التي
وجدها الرجل في بعض بيوت مكة، كما في موثقة إسحاق،
وكالأمتعة التي نسيها رفيقهم معهم عند عودتهم من الحج، كما
في مصححة يونس، وكالمال الذي مات صاحبه ولا يعرف وارثه كما
في روايتي صاحب الخان، بناءً على أنَّ موردهما عدم معرفة
الوارث لا عدم وجود الوارث، وحكم هذا المال هو وجوب
التصدّق به بعد الفحص عن مالكه، واليأس من معرفته.
ومن هذا الصنف الأمانة التي نسي الوَدَعي صاحبها، والثوب
الذي أطارته الريح فوقع في منزل غير منزل صاحبه ولم يعرفه،
والشاة التي دخلت في غير قطيعها بل والمال الذي اغتصبه أو
دخل عليه بمعاملة فاسدة ولم يعرف صاحبه، ومنه المال الذي
ينساه صاحبه في بيتِ آخر أو في حانوته، ومنه ما يتناوله من
الثياب والأحذية في الحمام أو الفندق أو المسجد معتقدًا
أنه له، وما أشبه ذلك مما هو معلوم الجنس ومجهول المالك،
ولا يمكن إيصاله لمالكه.
وحكم هذا الصنف وجوب التصدق به بعد الفحص عن مالكه واليأس
منه، عملاً بمقتضى النصوص المتقدمة بعد حمل بعضها على بعض
للقطع بعدم الخصوصية.
ثم إنه في كون مجهول المالك للإمام (عليه السلام) - كما هو
ظاهر صحيحة داوود - أو كونه مما يجب التصدق به، كما هو
ظاهر سائر الروايات، وجهان؟
ثم إنه بناءً على وجوب التصدق به، ففي كون ولاية التصدق
للإمام (عليه السلام) أو لمن هو بيده وجهان، وقد تعرضنا له
مفصلاً في كتابنا الخمس من مباني العروة الوثقى([8])في
مبحث وجوب الخمس في المال الحلال المختلط بالحرام، وقد
قوّينا وجوب التصدّق به وقلنا بأنَّ ولاية التصدق به
للإمام (عليه السلام)، فقلنا ما يلي:
إنَّ مقتضى هذه الروايات هو وجوب التصدق به بعد اليأس من
معرفة صاحبه، أما وجوب التصدّق به فلصراحة النصوص فيه،
وأما اشتراط اليأس فلأنَّه هو القدر المتيقن مما هو خلاف
القواعد.
مضافًا إلى إمكان استظهاره من النصوص كما لا يخفى على من
لاحظها، وعلى هذا لا يجب انتظار الحَول مع اليأس من العثور
على المالك ولا يُكتفى به مع احتمال العثور عليه للأصل،
ولا تعارض هذه الروايات روايات اللقطة ولا رواية حفص بن
غياث الواردة فيما يودعه اللص([9])لاختلافها
موردًا، فإنَّ مورد روايات اللقطة ضياع المال وجهل المالك،
ومورد ما يودعه اللص واضح، وموردهما مخالف لمورد روايات
مجهول المالك الذي هو معلوم الشخص ومجهول المكان، ولا
تعارضها أيضًا روايات المال الحلال المختلط بالحرام، لأنَّ
مورد روايات مجهول المالك العلم بالمال وبمالكه والجهل
بمكانه، وهو غير مورد روايات المال المختلط بالحرام
بالضرورة.
يتبع
=
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- الوسائل، ب7 من أبواب اللقطة ح1.
[2]
- المصدر السابق ، نفس الباب ح3.
[3]
- الوسائل، ب6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبه ح
3-4 .
[4]
- الوسائل، ب3 من أبواب ضمان الجريرة والإمامة ح13
.
[5]
- راجع: المكاسب، الشيخ
الأنصاري، مؤسسة الهادي، ط1: 4/33، وهي رواية علي
بن راشد قال : سألت أبا الحسن عليه السلام قلت :
(جعلت فداك اشتريت أرضًا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم
، فلما وفيت المال خبرت أن الأرض وقف ، فقال : لا
يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلة في مالك وادفعها
إلى من وقفت عليه ، قلت : لا أعرف لها ربا قال :
تصدق بغلتها)، الوسائل ، مؤسسة آل البيت: ج17، ب17
من أبواب عقد البيع وشروطه ح1.
[6]
- الوسائل: ب 16 من أبواب الصرف ح 1-2.
[7]
- لاحظ ما ذكرناه في التعليق على روايتي تراب
الصاغة في كتابنا الخمس من مباني العروة الوثقى ص
112 (منه قده).
[8]
- الخمس من مباني العروة الوثقى، الطبعة الأولى،
1978م، الموافق 1398هـ: ص113.
[9]
- الوسائل: كتاب اللقطة ، وأما رواية حفص فهي في
باب 18 من أبواب اللقطة .
|