إذا عرفت هذا فاعلم أنَّ المحتملات في باب مجهول
المالك ثلاثة:
أولها: أن يكون ملكًا للإمام (عليه السلام)
على نحو ملكيّته لميراث من لا وارث له.
ثانيها: أنه ليس له، ولكن ولاية التصرف فيه
له.
ثالثها: كون ولاية التصرف فيه لمن هو بيده.
وتنشأ هذه الاحتمالات من اختلاف الفهم بالنسبة إلى النصوص،
فقوله (عليه السلام) في رواية داوود: (واللهِ ما له مالك
غيري) إن كان المقصود منه كونه له بالعنوان الأوليّ لأنَّه
فُقد منه أو أضاعه بعض غلمانه، تكون الرواية خارجة عن
مجهول المالك موضوعًا، وتكون سائر النصوص دالة على وجوب
التصدّق به بلا معارض.
وإن كان المقصود منه كونه له بالعنوان الثانوي نظير ميراث
من لا وارث له، تكون دالّة على ملكيته له بهذا النحو.
وإن كان المقصود منه كون ولاية التصرف فيه له فقط، كانت
دالة على منع من هو بيده من التصرف فيه بغير إذنه.
وعلى جميع التقادير تكون ولاية التصرف فيه له، إما لأنَّه
يملكه فيكون مسلّطًا عليه، وإما لأن ولاية التصرف فيه له،
وأما احتمال كون ولاية التصرف فيه لمن هو بيده فإنَّه
ناشىء من ملاحظة النصوص المتضمنة لأمره إياه بالتصدّق به.
وفيه: أنّ أمره بذلك كما يمكن أن يكون من جهة كون ولاية
التصرف فيه لمن هو بيده، يمكن أيضًا أن يكون من جهة أن
ولاية التصرف فيه للإمام (عليه السلام) ويكون أمره إياه
بالتصدق به من باب الإذن بذلك.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه يمكن أن يقال بأن القرائن المقامية
توجب القطع بأنه ليس له بالعنوان الأوليّ، لأنَّه لو كان
له لكان المناسب تعرضه لفقدانه أو ضياعه، ولَذَكَر الجنس
والمقدار وسائر العلامات، ولَأَمره بدفعه إليه، لأن طبيعة
المالكين تدعو للمطالبة بما لهم لا إلى التصدّق به، فالأمر
بالتصدّق قرينة على أنه ليس له على نحو الملكية الشخصية،
والتصدّق وإن كان يناسب مقام الإمام ولا سيما مع احتمال
تطرق التهمة، إلا أن ذكر الجنس والمقدار وسائر العلامات
كافٍ في دفع التهمة، هذا مضافًا إلى أنَّ السائل إنما سأله
عن حكم هذا المال الذي لا يعرف صاحبه، فالواجب حمل الجواب
على ما هو مقتضى السؤال، ولا سيما وأن ذكر الحكم هو الذي
يناسب منصب الإمامة، فحمله على الإذن بصرف ماله الخاص
مخالف لجهة السؤال.
والمناقشة في هذه الأمور ممكنة والذبّ عنها كذلك، إلاَّ
أنَّ ذلك لا يخرجها عن كونها بابًا من أبواب تقريب
الاستظهار.
ويمكن أن يستفاد ذلك أيضًا من قوله (عليه السلام): (ولك
الأمن مما خفت منه)، بدعوى أنَّ السائل لو فهم منه أنه
ملكه الخاص بالعنوان الأوليّ لم يبق حاجة إلى تأكيد
الأمان.
وعلى هذا يتعين كون المقصود بالفقرة المذكورة إمَّا كونه
له بالعنوان الثانوي نظير ميراث من لا وارث له، وإمَّا كون
ولاية التصرف فيه له، ويكون المعنى ليس له صاحب يسوغ له
التصرف فيه غيري.
إن قلت: لما لا يقال: الرواية ظاهرة في ملكيته له بالعنوان
الثانوي بمقتضى ما قدمناه من القرائن، وحينئذ تكون هذه
الرواية من قسم المبيّن وتكون سائر الروايات من قسم
المهمل، ومقتضى القواعد حمل المهمل على المبيّن.
قلت: هذا معنىً لا بأس به بل لعله هو الذي فهمه غير واحد
من الفقهاء، ومنه يتضح أنه لا منافاة بين هذه الرواية وبين
سائر الروايات، وأنَّ مصرف مثل هذا المال الراجع له
بالعنوان الثانوي هو التصدّق به، والله المسدد.
ومن ذلك يتضح أنَّ ولاية التصدق به للإمام وليست لمن بيده
المال، ويؤيد ذلك أصالة عدم ولاية من هو بيده وعموم ولاية
الإمام (عليه السلام)، وليس في النصوص شيء واضح يقتضي
ولاية من بيده المال إلا احتمال استفادة ذلك من أمره له
بالتصدّق به، ولكنْ هذا احتمال معارَض باحتمال كون ذلك
إذنًا له بالتصدّق به، ومع الشك فمقتضى الأصل عدم جواز
تصدّقه به إلا بعد الاستئذان منه أو من نائبه، والله
العالم.
ثم إنَّ حكم المال الذي أودعه اللصّ المسلم، هل هو حكم
اللقطة من حيث وجوب التنذير سنة؟ أو حكم مجهول المالك من
حيث وجوب الفحص عن مالكه إلى أن يحصل اليأس، سواء قلَّت
مدة الفحص أو طالت؟ وجهان.
مقتضى الجهل بالمكان هو الثاني، ومقتضى قوله (عليه السلام)
في الرواية الثانية ( هو بمنزلة اللقطة ) هو الأول.
النوع الرابع: ما يكون عينًا خارجية غير
متميزة، ويكون مجهول الجنس والمقدار والمالك، وهذا هو
القدر المتيقن من الروايات المتضمنة لوجوب الخمس في المال
الحلال المختلط بالحرام، وأما إذا كان معلوم المقدار
تفصيلاً، فلا ينبغي الريب في خروجه من هذه المسألة، ويتضح
حكم ما إذا علم أنه أقل من الخُمس أو أكثر ولم يعلم مقداره
بملاحظة ما ذكرناه في كتابنا الخمس من مباني العروة الوثقى([1])،
وقلنا ما يلي:
أقول: المشهور شهرة عظيمة وجوب الخمس في المال الحلال
المختلط بالحرام، وهو المحكي في الجواهر عن النهاية
والغنية والوسيلة والسرائر والنافع والقواعد والتذكرة
والمنتهى والإرشاد والتحرير واللمعة والبيان وحواشي
البخارية والتنقيح والروضة وحاشية الإرشاد والحدائق
والرياض وغيرها، بل عن المنتهى نسبته إلى أكثر علمائنا،
وعن المفاتيح إلى المشهور، وعن ظاهر الغنية أو صريحها
الإجماع عليه([2])،
وعن البيان أن ظاهر الأصحاب ذلك([3]).
هذا وعن القديمين والمفيد وسلاَّر وغيرهم أنهم لم يتعرّضوا
له، وعدم تعرّضهم له ظاهر في كونهم لا يقولون بوجوب الخمس
فيه، وعن صاحب المدارك والكاشاني والخراساني الميل إلى عدم
وجوب الخمس فيه، والرجوع للقواعد، وعن مجمع البرهان أنه
تأمّل في وجوب الخمس فيه([4])،
وعن صاحب المدارك أنه قال: [والمطابق للأصول وجوب عزل ما
يتيقن انتفاؤه عنه والتفحص عن مالكه إلى أن يحصل اليأس من
العلم به فيتصدّق به على الفقراء كما في غيره من الأموال
المجهولة المالك، وقد ورد التصدّق بما هذا شأنه في روايات
كثيرة مؤيدة بالإطلاقات المعلومة وأدلة العقل، فلا بأس
بالعمل بها إن شاء الله تعالى]([5]).
وعن المستند([6])أنه
أطال المناقشة في نصوص الباب، تارة من جهة صحة النسخ،
وأخرى من جهة الدلالة، وثالثة من جهة المعارضة بما دل على
حلّ المختلط مطلقًا أو على حلّ المختلط بالحرام بالربا.
إذا عرفت هذا فاعلم: أن مقتضى القواعد الأوليّة، أن كل ما
يعلم المكلف بأنه ليس له، عينًا أو مقدارًا، يجب دفعه
لمالكه أو من يقوم مقامه إن كان يعرفه، وإلا جرى عليه حكم
مجهول المالك. وأما إذا لم يعرفه عينًا ولا مقدارًا،
فالمتعيّن الصلح مع أربابه إن كان يعرفهم، وإلا فمع الحاكم
الشرعي.
ثم إنه بناء على وجوب الخمس فيه، فهل يكون مصرفه مصرف
الخمس، أو يكون مصرف مجهول المالك لشمول أدلته له، ولقوله
(عليه السلام) في موثقة السكوني الآتية: (تصدّق بخمس
مالك)؟ احتمالان.
والأصل في هذه المسألة عدّة روايات:
أولها: صحيح عمار بن مروان قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: (فيما يخرج من المعادن،
والبحر، والغنيمة، والحلال المختلط بالحرام، إذا لم يعرف
صاحبه، والكنوز: الخمس)([7]).
ثانيها: رواية الحسن بن زياد عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: (إن رجلا أتى أمير المؤمنين (عليه
السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إنَّي أصبت مالا لا أعرف
حلاله من حرامه، فقال له: اخرج الخمس من ذلك المال، فإنَّ
الله عز وجل رضي من ذلك المال بالخمس، واجتنب ما كان صاحبه
يُعلم).
ثالثها: ما أرسله الصدوق رحمه الله، قال:
(جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير
المؤمنين أصبت مالاً أغمضت فيه أفَلي توبة؟ قال: ائتني
بخمسه فأتاه بخمسه فقال: هو لك، إن الرجل إذا تاب تاب ماله
معه).
رابعها: موثقة السكوني، عن أبي عبد الله
(عليه السلام)، قال: (أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام)
فقال: إني كسبت مالاً أغمضت في مطالبه حلالاً وحرامًا، وقد
أردت التوبة ولا أدري الحلال منه والحرام، وقد اختلط
عليَّ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تصدق بخمس مالك
فإنَّ الله قد رضي من الأشياء بالخمس، وسائر المال لك
حلال).
وهذه الرواية رواها المشائخ الثلاثة، والبرقي في المحاسن،
والمفيد في المقنعة([8]).
خامسها: موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه
السلام): (أنه سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل، قال:
لا، إلا أن لا يقدر على شيء يأكل ولا يشرب ولا يقدر على
حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلى أهل
البيت)([9]).
سادسها: ما عن المفيد في الزيادات أنه أرسل
عن الصادق (عليه السلام): عن رجل اكتسب مالاً من حلال
وحرام، ثم أراد التوبة من ذلك، ولم يتميّز له الحلال بعينه
من الحرام، فقال عليه السلام: (يخرج منه الخمس وقد طاب،
وإن الله تعالى طهَّر الأموال بالخمس)([10]).
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]
- الخمس من مباني العروة الوثقى، الطبعة الأولى:
ص102.
[2]
- راجع جواهر الكلام: 16/70،
(وجوب الخمس في المال المختلط بالحرام).
[3]
- راجع جواهر الكلام: 16/72.
[4]
- جواهر الكلام: 16/71.
[5]
- مدارك الأحكام، مؤسسة آل
البيت، ط1: 5/388 (وجوب الخمس في المال المختلط
بالحرام).
[6]
- راجع المستمسك، الحكيم،
مطبعة الآداب، النجف: 9/490.
[7]
- الوسائل: ب3 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح 6.
[8]
- كما ذكر صاحب الوسائل بعد
إيراده هذه الرواية.
[9]
- الوسائل: ب10من أبواب ما يحب فيه الخمس ح
1-3-4-2.
[10]
- المقنعة،الشيخ المفيد، جامعة
المدرسين، قم: ص283، وروى في الوسائل نحوه بتفاوت:
ب10 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح4.
|