العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = المال الذي يتعذر إيصاله لمالكه

إذا عرفت هذا فاعلم أن الأقوى ما ذهب إليه المشهور لوجود المقتضي لذلك وفقد المانع. أما وجود المقتضي فلظهور هذه الروايات في المطلوب، ولصحة سند بعضها بنفسه كصحيحة عمار بن مروان، وانجبار الضعيف منها بالعمل، وأما انتفاء المانع فلأن المناقشات المحكية أو التي يمكن أن تدَّعى كلها مدفوعة، وهي أمور:

أولها: أن الخمس ليس صريحًا في كونه على نحو الخمس المتعلّق بالغنيمة والمعدن والكنز، ولا سيما بعد التصريح بالتصدّق في رواية السكوني، لقوله عليه السلام فيها: (تصدّق بخمس مالك).

وفيه: أنه بعد الجمع في صحيحة عمار بين ما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والكنوز، وبين الحلال المختلط بالحرام، يكون صريحًا أو بمنزلة الصريح في المطلوب، لأنَّه (عليه السلام) جعل الخمس في هذه الأمور كلّها على نحو التشريك.

هذا مضافًا إلى ظهور الخمس في الخمس بالمعنى المعروف، إما لدعوى كونه حقيقة فيه عند المتشرّعة في عهد الصادقين (عليهما السلام)، وإما لمعهوديته معهوديةً توجب انصرافه إليه كما اعترف به صاحب الجواهر في جواهره([1])وشيخنا المرتضى في الملحقات وسيدنا الأستاذ في مجلس الدرس([2])، وحينئذ يتعيّن التصرف بقوله (عليه السلام) في رواية السكوني: (تصدق بخمس مالك) بحمله عليه لأظهريته، ولا سيما بملاحظة ما قيل من أنَّ الخمس صدقة بالمعنى الأعم، وأنه أطلق عليه كثيرًا كما في الملحقات وإن كنا لم نتحقّقه.

ولو فرض عدم إمكان التصرف بالتصدّق بحمله على الخمس، فلا بدّ من تقديم غيرها عليها لأصحيّته سندًا كصحيحة ابن مروان أو لجبره بالعمل كسائر الروايات.

ثانيها: أنَّ أكثرها ضعيف.

وفيه: أنَّه مسلَّم ولكن ذلك لا يضرّ بعد كون بعضها صحيحًا بالمعنى الأخصّ والبعض الآخر صحيح بالمعنى الأعمّ، ونعني بكونه صحيحًا بالمعنى الأعم انجباره بالعمل.

ثالثها: أنه يحتمل أن تكون قصة الرجل مع أمير المؤمنين واقعة واحدة، وعليه فتكون رواية ابن زياد ومرسلة الصدوق ورواية السكوني رواية واحدة، حيث إنَّ رواية السكوني اشتملت على الأمر بالتصدق بخمس المال، فتكون هذه الروايات مضطربة.

وفيه: أنَّ ذلك محتمل ولكنه خلاف الظاهر، وكل احتمال يكون على خلاف الظاهر لا دليل على حجيته وإن بلغ مرتبة الظن فضلاً عما إذا لم يبلغها، ولو بني على الاعتناء بمثل هذه الاحتمالات والعمل بها للزم الهرج والمرج في الفقه، هذا مضافًا إلى أنَّ اشتمال رواية السكوني على الأمر بالتصدّق بخمسه قرينة واضحة على التعدّد، لاستبعاد كونه من النقل بالمعنى، فإنَّ الراوي إذا نقل الرواية بالمعنى لا يتجاوز تبديل الألفاظ الواضحة بمثلها.

رابعها: أنَّ رواية السكوني التي رواها المشائخ الثلاثه والمفيد ورواها البرقي في المحاسن، لم يجدها صاحب المستند في نسخة المحاسن الموجودة عنده([3]).

وفيه: أنَّ رواية المشائخ والمفيد لها تكفي في ثبوتها، وعدم وجودها في نسخة المحاسن الموجودة عنده لا يضر، وبالجملة بعد رواية غيره لها عنها ينحصر التشكيك في نسخته.

خامسها: أنَّ موثقة عمار المتضمِّنة لتولية أعمال السلطان ظاهرة في كون كل ما بقي عنده من كسبه المحرم، وحينئذ فلا يكون موردها الحلال المختلط بالحرام، وعليه فهي أجنبية عمّا نحن فيه.

وفيه: أنَّه لو سلِّم، كان غيرها من النصوص كافيًا في المطلوب، انتهى.

والظاهر أنَّ الحكم المذكور آنفًا لا يختلف باختلاف السبب، فلا يفرق بين كون اختلاطه بسبب التسامح واللامبالاة كما هو ظاهر قول السائل (أغمضت في مطالبه) وبين كونه بسبب التعمد كما هو شأن اللصوص والمرابين والمقامرين.

النوع الخامس: الاختلاط المتميز السبب، وله أمثلة:

منها: ما لو لم يخرج زكاة ماله مدّة العمر فاختلطت بأمواله الأخرى كما لو باع الإبل بالضأن، وباع الضأن بالغلَّات فتعلّقت الزكاة فيها وهي في ملكه، وباع الغلَّات بإحدى النقدين، ولم يعرف مقدار ما وجب عليه من زكوات هذه الأمور، وفي هذه الصور لا تطهر أمواله بإخراج خمسها، وإن احتمل كون الزكاة بمقداره، بل لا بد من تطهيرها بإخراج الزكاة، فيضمن القدر المتيقن المثلي بمثله، ويضمن ما عداه بالقيمة، ولا بد هنا من مراجعة ولي الزكاة، ولا فرق في ذلك بين ما لو تلفت جميع أمواله بعد هذه التقلبات أو بقي شيء منها، وفي الاكتفاء بإخراج ما يتيقنه من كل صنف وجه، لكون المورد من باب دوران الأمر بين الأقل والأكثر المتباينين.

ومنها: ما لو غصب شاةً أو سرقها أو دخلت في قطيعه ولم يعرف صاحبها، ثم توالدت وطال الزمان وتعذّر عليه تمييزها وتمييز ما ولد منها، فإنَّه يجري عليها حكم مجهول المالك.

ومنها: ما لو وجد شاة ضالّة وأهمل التنذير عليها، ثم توالدت واختلطت وتعذّر عليه التمييز، فإنَّه يجري عليها حكم اللقطة التي يتعذّر التنذير عليها، إما لنسيان الصفات، وإما لارتحاله في الصحراء من مكان إلى مكان.

والسبب في عدم تطهير هذا المال الحلال المختلط بالحرام في هذه الأمثلة الثلاثة وإن كان الحرام يقارب الخمس أو ينقص عنه أو يزيد، هو أنَّ هذه الأموال لها جهة معلومة تضاف إليها إضافة الملك، فتكون نظير معلوم المالك.

النوع السادس: المال الذي يكون في الذمة، وله صور من حيث المالك:

أولها: أن يكون معلوم المالك تفصيلاً: وحكمه واضح، فإنَّ التخلص منه يكون بمراجعة مالكه، سواء كان معلوم الجنس والمقدار أو مجهولهما كلاً أو بعضًا، فإنَّه إن كان معلوم الجنس والمقدار ضمنه له بمثله إن كان مثليًا، وبقيمته إن كان قيميًا.

 وإن كان معلوم الجنس مجهول المقدار تعين الأقل للأصل، ولو قيل بالاحتياط لأصالة اشتغال الذمّة لكون الشك في فراغها فله وجه، ولكن أصالة البراءة حاكمة على أصالة الاحتياط.

 وإن كان مجهول الجنس والمقدار تعيّن الصلح، وفي الاقتصار على الأقل أو تعيّن الاحتياط: وجهان.

ولو ادّعى عليه الأكثر، فإنَّ أقام البينة قضي له بها، وإلا كان على الضامن اليمين لنفي العلم بالأكثر، لا لنفيه واقعًا، لجهله به ولأنَّه منفي بالأصل، ولو امتنع الغريم من قبول ما دفعه، دفعه للحاكم، ولو امتنع عن الصلح تولاه الحاكم الشرعي.

ثانيها: أن يكون معلوم المالك في عدد محصور: وفي وجوب إرضاء الجميع - وهو الاحوط لأنَّه مقتضى أصالة الاشتغال - أو توزيعه عليهم بالسوية لقاعدة العدل والإنصاف نظير درهم الوَدَعي، أو القرعة، احتمالات.

ثالثها: أن يكون مجهول المالك: ويجب الرجوع فيه إلى الحاكم الشرعي، فإن كان معلوم الجنس والمقدار ضمنه بمثله إن كان مثليًا وبقيمته إن كان قيميًا.

وإن كان معلوم الجنس مجهول المقدار اكتفى بالأقل للأصل، وإن كان مجهول الجنس والمقدار تعين الصلح، وفي الاقتصار على الأقل أو تعيّن الأكثر وجهان، كما تقدم.

حكم المال المجهول المالك

إذا عرفت ما قدمناه، فاعلم أنَّ القدر المتيقن من النصوص أنَّ المال المجهول المالك الذي يجب التصدّق به أمران:

الأول: المال الذي يجهل صاحبه جهلاً مطلقًا كالدراهم التي وجدها مدفونة في بيت من بيوت مكة، وكالمال الذي أودعه اللصوص، وكالمال الذي اكتسبه أيام ولايته لبني أمية كما هو مورد موثقة إسحاق ورواية المشايخ الثلاثة، ورواية ابن أبي حمزة، وصحيحة داوود، وصحيحة زرارة الأولى وهي أول رواية من مجموع الروايات، والرواية الثالثة والرابعة، والتاسعة والعاشرة، وكلها ناظرة للأعيان الخارجية.

الثاني: المال الذي يُعرف صاحبه شخصيًا ولا يُعرف نسبه ولا بلده، كالمتاع الذي نسيه رفيقهم معهم، وكالدَّين الذي لرجلٍ عليه، وكالحق الذي لرجلٍ عليه، وكأجرة الأجير، وكالمال الذي مات عنه الرجل الذي كان عنده في الفندق، وكالمال الذي صار في يده لرجلٍ ميت لا يعرف له وارثًا، وهذه الرواية تكون مما نحن فيه إذا كان يعرفه، كما هو مورد مصحّحة يونس، وصحيحة زرارة الثانية، وصحيحة معاوية، وروايتي هشام بن سالم عن صاحبي الخان، ورواية محمد بن القاسم، وهي الثانية والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة، وهذه الروايات كلها ناظرة للأعيان الخارجية، ما عدا صحيحتي زرارة ومعاوية فإنَّ موردهما الدَّين، وهو أعيان ذمّية، ولفظ الحق في الثانية ظاهر فيه.

وأما المال الذي في الذمة والذي يجهل صاحبه جهلاً مطلقًا فلم تتعرض له النصوص.

ويمكن الاستدلال لوجوب التصدّق به بأمور:

أولها: ما دلّ على وجوب التصدّق بالأعيان الخارجية التي يجهل مالكها جهلاً مطلقًا بدعوى عدم الفرق.

ثانيها: ما دلّ على وجوب التصدّق بالدَّين بالأولوية، فإنَّ ما دلّ على التصدّق به مع معرفة الدائن، يدل على ذلك مع الجهل به بالأولوية لأنَّه دين يجهل صاحبه، فيكون داخلاً في صحيحة زرارة وصحيحة معاوية.

ثالثها: ما استدل به في الروضة([4])لمشروعية التصدّق بالدَّين وتبعه غيره، من أنَّ التصدّق به إحسان محض، فإن ظهر المالك ولم يرض به ضمنه له، لأنَّ التصدّق أنفع من بقاء المال المعرّض لتلفه.

وفيه: أنَّه استحسان محض لا دليل على حجيته، وأنَّه إذا بقي في ذمة الميسور الثقة ليس معرّضًا للتلف، اللهم إلا أن نقول إنَّه أيضًا معرّض للتلف باحتمال طروّ الفقر أو الجحود منه أو من ورثته.

والتحقيق: أنَّه فرق بين الدَّين وبين الأعيان الخارجية، فإنَّ الدَّين لا يتشخّص إلا بقبض الغريم، فالتصدق به محتاج إلى عملين وكل منهما مفتقر إلى الولاية:

أولهما: عملية الإفراز. ولا دليل على تشخّصه بإفراز المديون.

وثانيهما: عملية التصدّق. وهذا بخلاف العين الخارجية، ولكن بعد مراجعة الحاكم الشرعي الذي هو ولي على ذلك، يرتفع هذا الفرق.

وأما المال الذي يعرف صاحبه اسمًا ونسبًا وتشخّصًا ولكنَّه مجهول البلد، فإنَّ النصوص لم تتعرض له بخصوصه، نعم هو متحد ملاكًا مع ما أسلفناه كما هو واضح.

ودعوى الفرق عهدتها على مدّعيها فإنَّ الأجير والرفيق يُعرَف اسمه وشخصه ويُجهل نسبه وبلده، ومثال ما نحن فيه من يعرف اسمه ونسبه مثلاً ويجهل شخصه وبلده، وكلاهما يشتركان من حيث عدم التمكن من معرفته ليدفع إليه حقه.

انتهى المقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] - جواهر الكلام: 16/72 حيث قال: [ونحوها ظهور لفظ الخمس في النصوص والفتاوى في ذلك بل لعله حقيقة شرعية فيه].

[2] - راجع المستمسك: 9/489، حيث قال: [وظاهر إطلاق الخمس في غيره الظاهر في الخمس المقابل للزكاة].

[3] - الموجود في مستند الشيعة، للمحقق النراقي، مؤسسة آل البيت، قم، ط1: كتاب الخمس: 10 ص41: قوله [بل وكذا رواية السكوني، حيث إن الموجود في النسخ المصححة التي رأيت من بعض كتب الحديث: (في مطالبه حلال وحرام). وعلى هذا، فيمكن أن يكون متعلق الإغماض محذوفًا، ويكون (في مطالبه) متعلقًا بقوله (حلال وحرام)، أي اكتسبت مالا وأغمضت، وفي مظان طلبه حلال وحرام، ولم أدر الحلال من الحرام في المطالب، فاشتبه لأجله ما اكتسبته، فأمر عليه السلام بأداء خمس المكتسب. بل يجري هذا الاحتمال على ما في أكثر نسخ كتب الفقه وبعض نسخ الحديث المصححة أيضا من نصب الحلال والحرام، فيمكن كونهما حالين من المطالب]اه.

[4] - الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد الثاني، تحقيق كلانتر، قم، ط1، 1410هـ: 4/18.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس    أرشيف المجلة     الرئيسية