إن كلمة
[ابن الإنسان] من الكلمات التي تكرّر ورودها في
الأناجيل الأربعة، إلى حدّ قد لا يمر إصحاح (فصل), أو
صفحة دون ورودها فيها، وقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا
بمفهوم الملكوت الوارد في الأناجيل.
ومن
المتسالم عليه بين المسيحيين، أنه أريد بها في كافة
موارد استعمالها شخصُ السيد المسيح (عليه السلام)، حتى
صارت من أهم ألقابه في الذهن المسيحي، ولم نرَ أحدًا
منهم أشار, أو احتمل إرادة غيره منها في أي مورد من
الموارد.
ولقد
اتفق المسيحيون على أن السيد المسيح (عليه السلام) هو
الذي اختار هذا اللقب لنفسه، وأنه كان أحب الألقاب إلى
نفسه الشريفة، حتى أنه [عندما كان يخاطب بلقب المسيح
كان يستبدله بلقب ابن الإنسان]([i]).
وقد
فضّلت الجماعة المسيحية الأولى هذا اللقب, على سائر
الألقاب التي أطلقت عليه (عليه السلام) , من أمثال
الربّ وابن الله وغير ذلك(
[2]).
وفي هذا
المجال تطرح أمام الباحث عدّة أسئلة، لا بدّ من معالجتها،
والوقوف عندها، في محاولة معرفة ما تنطوي عليه هذه الكلمة،
وما ترمي إليه، وأهم هذه الأسئلة هي:
1-
ما هو المعنى المراد من كلمة ابن الإنسان؟
2-
لماذا أصرّ السيد المسيح (عليه السلام) على استخدامها في
مختلف الموارد، مفضلاً لها على سائر الألقاب التي أطلقت
عليه؟
3- وهل
السيد المسيح (عليه السلام) هو المراد منها حصرًا، في
كافّة الموارد المذكورة في الأناجيل، أم أنها تدل على غيره
من الناس؟ وعلى الفرض الثاني لا بد من مطالعة النصوص،
لنتبين ما إذا كانت تدل أو تشير إلى شخص أو أشخاص معينين
أو لا؟
أولا: معنى ابن الإنسان:
مما لا شك
فيه أن كلمة [ابن الإنسان] تعني - بحسب المعنى المتبادر
منها - نفس معناها اللغوي، وهو الكائن البشري نفسه، ولا
تحتمل أيّ معنى آخر، ما لم تقم قرينة خاصة تدل على خلاف
هذا المعنى اللغوي.
وقد حرص
السيد المسيح (عليه السلام), على استخدام هذا اللقب دون
سواه, في كافة الموارد، التي تحدّث فيها عن نفسه الشريفة،
كما أشرنا إليه وسيأتي.
إنّ صاحب
التفسير الحديث للكتاب المقدس قد أفاض في الحديث عن دلالات
هذه الكلمة في الأناجيل الأربعة، فقال ما حاصله: [إن عبارة
[ابن الإنسان] في اللغتين العبرية والآرامية تعني ببساطة
إنسانًا أو بشرًا، وتعني في الغالب إنسانًا ضعيفًا
بالمقارنة مع الله تعالى]
([3]).
ولكن الكاتب
ناقَضَ نفسه في نفس الكتاب، حيث يقول: [والقول بأنها جاءت
هنا بمعناها الأساسي لتعني الإنسان بوجه عام إنما هو قول
ليس له أي معنى]([4])،
دون أن يذكر وجهًا لدعواه هذه.
ومن الظاهر
أنه لا يمكن قبول هذا الادّعاء، لعدم استناده إلى أي دليل،
مهما كان واهيًا، ولا تساعد عليه أيّة قرينة لفظية أو
غيرها، ويمكن أن يستشعر عدم اقتناع الكاتب نفسه به، ولذلك
أرسله إرسال المسلمات من دون ذكر وجه أو تبرير, خصوصًا
بعدما تقدّم معناها منه نفسه.
ثانيا: علة استخدام المسيح لها:
وأما إصراره
(عليه السلام) على استخدام هذا اللقب, وتفضيله على سواه من
الألقاب والنعوت، التي كانوا يطلقونها عليه, حتى إنه كان
إذا خوطب بلقب [المسيح] استبدله مستخدمًا في جوابه لقب ابن
الإنسان([5])،
فهو راجع بلا شك إلى أنه (عليه السلام) كان يريد التأكيد
على بشريته, وأنه إنسان كسائر الناس, لا يختلف عنهم في
طبيعته وحقيقته, وهو لا يخلو من دلالة على تزييف وإبطال
دعوى ألوهيته, التي ظهرت إرهاصاتها منذ بداية دعوته
الشريفة, واستمرّت بقوّة, لم تخلُ من العنف في كثير من
الأحيان بعده.
وعلى ذلك،
فيكون تأكيده على نعت نفسه بابن الإنسان، متوافقًا مع
وصيته إلى أصحابه، في آخر رحلة له إلى أورشليم، حيث قال
لهم: [اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح
فنشيط، وأما الجسد فضعيف]([6])،
وإلا لم يكن بحاجة للتأكيد على أنه ذو بُعدين هما الروح
والجسد, كما هو الحال في جميع الناس.
وقد شهد
علماء اللاهوت المسيحي أنه كان (عليه السلام) يستخدم هذا
اللقب للدلالة على نفسه، مستفيدًا من الكلام الوارد في سفر
دانيال، والذي يتحدّث عن ابن الإنسان, والذي سوف يأتي
ويملك في آخر الزمان([7]).
والملاحظ أن
كلام دانيال يتحدث عن مُلك أرضي في آخر الزمان، يُقيمه
موجودٌ بشري، ويُنفّذ أحكام الله تعالى ووصاياه، قال
دانيال: [كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سُحب السماء مثل
ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه قدامه،
فأعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم
والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لا يزول وملكوته ما لا
ينقرض... والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء
تعطى لشعب قديسي العلي. ملكوته ملكوت أبدي وجميع السلاطين
إياه يعبدون ويطيعون]([8]).
وفي محاولة
لتطبيق عنوان ابن الإنسان الوارد في سفر دانيال على السيد
المسيح (عليه السلام)، وإثبات أنه هو الموعود بإقامة
الملكوت في آخر الزمان, سعى كتَّّّاب الأناجيل والشرّاح
والمفسّرون بكل ما أوتوا من قوة إلى التوفيق بينهما، قال
في تفسير الكتاب المقدس: [كان اللقب [ابن الإنسان] يشير
إلى المسيا، هذه بدون شك، هي الناحية التي أكَّدها الربّّ
عند استعمال اللقب، وبإطلاق النسب على نفسه، كان يشهد أنه
المسيا]([9]).
ثالثا: هل ابن الإنسان واحد؟:
إن حصر
مفهوم ابن الإنسان بالسيد المسيح (عليه السلام) لم يكن
خيارًا موفّقًا, ذلك أنه يؤدي إلى محاذير لا يمكن الالتزام
بها, من لزوم التناقض والتهافت في نصوص الأناجيل, بالإضافة
إلى عدم استناده إلى مبررات موضوعية وواقعية, تجمع بين
قداسة النص وصحة الانطباق عند المسيحي.
وقد نشأت
هذه الإشكالية من استئناس المسيحيين, وتسالمهم على أن مقيم
الملكوت هو السيد المسيح (عليه السلام) , وأنه هو المسيا
الموعود في آخر الزمان, وقد بحثنا مسألة الملكوت في دراسة
سابقة, وأثبتنا هناك أن المسيح (عليه السلام) مجرّد مبشّر
بها, وشاهد عليها, وداع إلى قبولها, والإيمان بمقيمها حين
صدعه بالأمر.
إن ملاحظة
نصوص الأناجيل والتأمل في مضامينها, يدل على أن كلمة [ابن
الإنسان] الواردة فيها تعني, بعد الفراغ عن إرادة المعنى
اللغوي المتقدّم, وإثبات أن من تطلق عليه مجرد كائن بشري,
فيه من مواطن الضعف والقوة ما يقتضيه كونه موجودًا بشريًا،
في مقابل صفات الكمال المطلق، والخاصة بالذات الإلهية
المقدسة، بمعنى أن من يكون إنسانًا لا يمكن أن يتّصف بصفة
الألوهية بأي حال من الأحوال، تعني إرادة شخصين منها أو
أكثر بحسب موارد استعمالها في الأناجيل:
أحدهما:
السيد المسيح (عليه السلام).
والآخر:
مقيم الملكوت الموعود.
فإذا أمكن
التفكيك بين الشخصين - وهو ما ندّعي أنه ظاهر في الأناجيل
كما سنرى - أمكنت قراءة الأناجيل، قراءة موضوعية، وانسجمت
مضامينها، دون أن نضطر إلى الالتزام بالتهافت بينها، ونبحث
بالتالي عن تأويلات بعيدة، وتفسيرات فاسدة، في محاولة
التوفيق بين هذه المضامين.
إلا أنه لا
بد من الإشارة أولاً، إلى أن إشكالية تعميم إرادة السيد
المسيح (عليه السلام) من سائر النصوص الواردة في ابن
الإنسان، قد نشأت، بحسب الظاهر, من القراءة السطحية لإنجيل
يوحنا، والذي يختلف في صياغته، والهدف من كتابته, عن
الأناجيل الثلاثة الأخرى، حيث توحي هذه القراءة له بذلك،
وإن كانت قراءته بدقّة وعمق لا تساعد على هذه الدعوى كما
سنرى.
والظاهر أن
الأمر الذي أوحى لهم بهذا الفهم هو أن الجماعة المسيحية
الأولى قد كانت في بداياتها مقتصرة على اليهود الذين آمنوا
بصدق دعوة السيد المسيح (عليه السلام) بحسب الأناجيل,
والتي دلّت على أنه لم يرسل لغير بني إسرائيل، وهو ما أمر
به تلاميذه ورسله. ومن المعلوم أن اليهود كانوا يعيشون تحت
سيطرة الرومانيين آنئذ، وقد ملكوا عليهم كافة شؤونهم، بما
فيها الشؤون الدينية نفسها, فقد أمسكوا بزمام الأمر كله,
حتى صار تنصيب رئيس كهنتهم وعزله, بيد الرومانيين لا
بأيديهم.
وهذا ما
جعلهم ينتظرون مجيء المسيا, الذي سيقيم العدل بين الناس في
آخر الزمان، حسب ما تدل عليه نبوءات العهد القديم، وكانوا
على قناعة تامة بأن مقيم الملكوت هذا سيكون من بني
إسرائيل، ولم يخطر في ذهن أحد منهم أن يكون من غير بني
إسرائيل، وبعبارة أدق لا يستطيعون تقبل هذه الفكرة، رغم
معرفتهم بها حق المعرفة.
وهذا
بالحقيقة هو ما دفعهم إلى محاربة السيد المسيح (عليه
السلام) وتكذيبه، ومحاولة قتله، عندما أظهر لهم حقيقة
الأمر، وأنه مجرد شاهد للحقّ ومبشر به، بعدما كان الآلاف
منهم قد اتبعوه وآمنوا به، اعتقادًا منهم أنه هو المخلص
الموعود, والذي بلغ ذروة الصراحة عندما قال لهم: [... لذلك
أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى أمة تعمل أثماره]([10]).
وأما الذين
اتبعوه بعد ارتفاعه ورحيله، فإنهم سرعان ما وقعوا تحت
تأثير بولس الرسول، الذي دخل المسيحية بعدما يئس من ضرب
أنصارها بالقوة والقهر من الخارج، كما هو معلوم من سيرته
ودعوته التبشيرية التي نأى بها عن اليهود، وتوجّه إلى
الوثنيين ليدخلوا في الدين الجديد، فعمل على إثبات أن
الخلاص لا بد وأن يكون بشخص السيد المسيح (عليه السلام)،
كونه إسرائيليًا قبل كل شيء، ولهذا فقد حاول بولس تأويل
النصوص التوراتية والإنجيلية، فأعطى مداليل نبوءاتها
بُعدًا روحانيًا خالصًا، لا يمس واقع حياتهم الاجتماعية
والسياسية، وغير ذلك مما يرتبط بواقعهم المعاش فعلاً, حتى
في ما يرتبط بمعنى الملكوت الموعود.
لقد وقعت
التعاليم البولسية هذه موقع القبول والرضا، لدى الأجيال
التالية، ولم تعد قابلة للتشكيك والنقاش، بعدما قويت
شوكته، وكثر أتباعه وأنصاره، وبعدما أفل نجم تلاميذ السيد
المسيح (عليه السلام)، وضاعت مواعظهم وتراثهم، وهذا ما أدى
إلى حصول الالتباس في فهم المسيحيين لمدلول كلمة [ابن
الإنسان] على مر التاريخ، وأوقعهم في كثير من التناقض،
والتعقيد في فهم النصوص الإنجيلية، التي أرادوا أن يفسروها
طبقًا لخلفياتهم الذهنية، والتي فرضت نفسها على كتاباتهم
المقدَّسة، خصوصًا وأن هذه القناعات تلامس وجدانهم
وعقائدهم السابقة التي تربّوا عليها, وإن كانت مخالفة
لتعاليم الأنبياء, ولعقائد اليهود جملةً وتفصيلاً.
مع أن مقتضى
الالتزام الديني أن يعتمد تأسيس القناعات الدينية على
النصوص المقدسة لا العكس, خلافًا لما فعله هؤلاء.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
باحث إسلامي ومدرّس في الحوزة العلمية.
[i]
-
التفسير الحديث للكتاب المقدس، شرح إنجيل متى،
ص35.
[2]
-
العهد الجديد بتعليق الآباء اليسوعيين، ص58 تعليق
رقم 15.
[3]
-
التفسير الحديث للكتاب المقدس، إنجيل متى، ص35،
بتصرف.
[4]
-
التفسير الحديث للكتاب المقدس، إنجيل متى، ص171،
بتصرف.
[5]
-
التفسير الحديث للكتاب المقدس، إنجيل متى، ص35.
[7]
-
لاحظ مثلا: الدفاع عن المسيحية، الإنجيل بحسب متى،
ص294.
[8]
-
سفر
دانيال: 7/13-27.
[9]
-
تفسير الكتاب المقدس، ج5، ص37.
|