العدد الخامس/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = ابن الإنسان في الإنجيل

ابن الإنسان إنسان:

ذكرنا أن السيد المسيح (عليه السلام) قد أطلق عبارة [ابن الإنسان], وأراد بها نفسه الشريفة تارة, وشخصًا آخر تارة أخرى, ولكن ذلك من باب التطبيق على بعض معانيها, وليس لانحصار المعنى بهما, بل هو قد استعملها في معناها العام الشامل لكل إنسان, من حيث حقيقته وطبيعته.

ولا يخفى أنه (عليه السلام) أراد بهذا الاستعمال أن يبيّن انه ليست له أيّة خصوصية تميّزه عن سائر الناس من هذه الجهة, كما أراده المسيحيون, ذلك أن الإنسان قادر على اجتراح المعجزات, وان يفعل الأعاجيب, من حيث هو إنسان, شرط أن يُحسن علاقته بالله تعالى.

فقد قُدّم له مفلوجٌ ذات مرة, وكان مطروحًا على فراشه, وطلبوا منه أن يشفيه, فقال له يسوع [ثق يا بني. مغفورة لك خطاياك], فاعترض عليه قوم من الكتبة, وقالوا في أنفسهم هذا يجدف, فقال لهم: [لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم, أيّما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك. أم أن يقال قم وامش, ولكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا أن يغفر الخطايا]([1]).

ولا شك في أنه (عليه السلام) أراد أن يبيّن قاعدة عامة, وهي أن الدعاء وحسن العلاقة بالله تعالى تمكّن الإنسان من أن يقوم بكل ذلك.

ويدل على هذه الحقيقة ويفسرها قول كاتب يوحنا: [وأعطاه سلطانًا أن يدين أيضًا لأنه ابن الإنسان]([2]).

حيث جعل ميزان سلطان الإدانة كونه إبنًا لإنسانٍ وليس شيئًا آخر, ولذلك ذكرها بصورة التعليل.

ولكن ذلك لا يعني عدم دلالة الأناجيل الأخرى على هذا العموم, وإن كانت أقل صراحة في الدلالة على ذلك, فإن قول كاتب إنجيل متى في ذيل الحديث من أن [الجموع قد تعجّبوا ومجّدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا] يكشف عن أن الجموع قد فهموا منه العموم, وأنه قانون ثابت, لكنه متوقف على تحقق مقتضياته وشروطه.

ومما يدل على هذه الحقيقة, أنه قد وقعت معه (عليه السلام) عدة حوادث وتعليقات منه, تدل على ثبوت هذه القاعدة وتؤكدها, نذكر بعضها هنا:

1- لقد مشى على الماء في البحر, ولما رآه تلاميذه, وكانوا في السفينة, فوجئوا بذلك, وطلب منه بطرس أن يمشي معه على الماء, في ما يبدو أنه محاولة للتأكّد من صحة ما رأوه, [فقال تعال. فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء إلى يسوع, ولكن لما رأى الريح شديدة خاف وإذ ابتدأ يغرق صرخ قائلاً يا ربّ نجني, ففي الحال مدّ يسوع يده وأمسك به وقال له يا قليل الإيمان لماذا شككت]([3]).

فقد ربط (عليه السلام) القدرة على المشي فوق الماء بإيمان المرء ويقينه, وعدمها بخوفه وشكّه, كما هو ظاهر.

2- وجاءه رجل وطلب منه أن يشفي ابنه، وقال له: [وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه, فأجاب يسوع وقال أيها الجيل غير المؤمن الملتوي. إلى متى أكون معكم. إلى متى أحتملكم. قدّموه إليَّ ها هنا], ولما شفاه سأله تلاميذه عن سبب عدم قدرتهم على شفائه، [فقال لهم يسوع لعدم إيمانكم. فالحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم]([4]).

وهذه القضية ظاهرة بل صريحة في أن الإنسان قادر، من حيث هو إنسان، على فعل ذلك، وأنه مركوز في أذهان الناس كما يدل عليه قول الرجل: [أحضرته إلى تلاميذك الخ..] وكذلك القاعدة التي أعطاها السيد المسيح (عليه السلام) نفسه.

3 - ونظر مرة إلى شجرة تين [وجاء إليها فلم يجد شيئًا إلا ورقًا فقط. فقال لها لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد. فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين كيف يبست التينة في الحال، فأجاب يسوع وقال لهم. الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان ولا تشكّون فلا تفعلون أمر التينة فقط بل إن قلتم لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون، وكل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه]([5]).

نستخلص من هذه النصوص، أن اجتراح المعجزات والأعاجيب مقدور للإنسان، من حيث هو إنسان، شرط الإيمان، وصدق النية، والإخلاص في العلاقة مع الله تعالى.

إن هذا النحو من الكلام، خصوصًا المشتمل على لفظ [ابن الإنسان]، ليس ناظرًا إلى شخص بعينه، وإنما يؤسس إلى قاعدة عامة، تشمل كل إنسان متصف بصفة الإيمان والإخلاص، فهي على وزان الحديث القدسي، القائل: [عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون].

المسيح ابن الإنسان:

لقد وردت عبارة ابن الإنسان وأريد بها السيد المسيح (عليه السلام) في جملة من الموارد، وهي عبارةٌ كثيرًا ما تردّدت على لسانه (عليه السلام)، وكانت غايته من استعمالها أن يبين للناس أنه واحد منهم، لا يختلف عنهم من حيث طبيعته الإنسانية، الأمر الذي يكشف عن أنه كان في مقام تزييف مقولة دعوى طبيعته الإلهية وإبطالها، وهي المقولة التي حاول الشياطين - الذين كان يخرجهم من الناس - أن ينسبوها إليه، ويكرّسوها في أذهان الناس على العموم.

كما أن طبيعة المحاورات التي جرت بينه وبين تلاميذه، تدل على أنهم كانوا يعرفونه كإنسان كذلك لا أكثر، بل كان سائر الناس يرونه كذلك، خلافًا لما يعتقد به المسيحيون من إلهيته، والذي انتشر بينهم بعد ارتفاعه عنهم، وبعد انتشار الدين الجديد في أوساط الرومانيين الوثنيين، من خلال دعوة بولس الرسول بينهم، فإنه:

1 - [لما جاء إلى نواحي قيصرية فيلبس سأل تلاميذه قائلاً من يقول الناس أني أنا ابن الإنسان، فقالوا. قوم يوحنا المعمدان. وآخرون ايليا. وآخرون ارميا أو واحد من الأنبياء، قال لهم وأنتم من تقولون أني أنا، فأجاب سمعان بطرس وقال له أنت هو المسيح ابن الله الحي]([6]).

ولكن لا إشكال في أن عبارة [ابن الله الحي] قد أضيفت إلى أصل الكلام، لغاية في نفس الكاتب، بدليل أنها لم ترد في إنجيل مرقس ولا في انجيل لوقا، فإن عبارة مرقس: [فأجاب بطرس وقال له أنت المسيح، فانتهرهم كي لا يقولوا ذلك لأحد]([7]).

وأما عبارة لوقا فهي: [فأجاب بطرس وقال مسيح الله فانتهرهم وأوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد]([8]).

ومن الظاهر أن كلمة [المسيح] لا تحتمل معنى الإلهية الذي حملها المسيحيون عليه، إذ ليست من مبتدعات العهد الجديد، وإنما جرى التلاميذ في إطلاقها واستعمالها وكذلك سائر الناس آنئذ، وفقًا لمصطلح العهد القديم، والذي يدل على أن من تطلق عليه هو إنسان خالص، يحتمل معنى النبوة والكهانة والملك.

ويشهد لهذه الزيادة والتلاعب ما ذكره الأب سليم بسترس، فإنه بعدما ذكر الفرق بين كلام متى ومرقس، قال: [وهذا دليل على أن عبارة ابن الله الحي قد أضافها كاتب انجيل متى، معلنًا ليس إيمان بطرس في أثناء حياة يسوع، بل إيمان بطرس والرسل والكنيسة بألوهية المسيح من بعد قيامته]([9]).

وهو صريح بأن بطرس والتلاميذ لم يعتقدوا, في البداية على الأقل، أن السيد المسيح (عليه السلام) ذو طبيعة إلهية، بل كان إنسانًا كسائر الناس، أما أنهم هل اعتقدوا بإلهيته بعد ارتفاعه، كما ذكره الأب بسترس، فهو غير ظاهر، لأنه منقول عنه بحسب متى، ولو حصل ذلك فعلا لأشار إليه كل من مرقس ولوقا.

ويمكن القول أن كاتب متى قد ذكر ذلك طبقًا لاعتقاده الشخصي في طبيعة المسيح، بحيث افترض أن بطرس آمن بها بعد قيامته، ولكنه لا يصحّح زيادته على كلام بطرس وتحريفه، لأن المفروض أنه يتحدّث عن واقعة حصلت بالفعل، فالواجب عليه أن ينقلها كما حدثت, كما تقتضيه أمانة النقل، ولا يضيف إليها قناعاته الخاصة، ويفسّر النص على أساس فهمه واعتقاده.

 وتستوقفنا هنا قصة انتهاره لهم، فإن كلمة [انتهرهم] تعني [زجرهم] عندما صرّحوا له بأنه المسيح، وهي تبدو غير متوافقة ولا منسجمة مع ما يريده المسيحيون منها، إذ لو كان هو المسيح الموعود بإقامة الملكوت، لم يكن لانتهاره لهم أي معنى، لأنه قد أعلن ذلك قبل هذه الحادثة، إذ ليس من المحتمل أن لا يريد إخبار الناس بحقيقته، وإلا فقدت رسالته ودعوته غايتها ومغزاها، فلا بد من حمل زجره لهم على أنهم لم يحسنوا تفسير دعوته.

وأما الفهم المسيحي لزجره فهو ناشئ من كلام متى: [حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد أنه يسوع المسيح]([10]).

ولا إشكال في أن متى قد تصرّف في العبارة، كما رأينا حاله من قبل بغية التخفيف من وقع الزجر على الناس، ويسير بها حسب الوجهة التي يريدها الكاتب، وإلا فما هو المبرّر لاختلاف تعبيره عما ذكره كل من مرقس ولوقا.

2- وعندما طلب الفريسيون آية، أخبرهم بأنه لن تكون لهم آية إلا آية يونان النبي، قال لهم: [لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال]([11])

ولا إشكال في أن المراد بابن الإنسان فيها هو السيد المسيح (عليه السلام) نفسه، وقد ناقشنا هذه المقولة بالتفصيل، وأثبتنا زيفها، وعدم صحتها في كتاب [صلب المسيح في الإنجيل]، فلتراجع ثمّة.

3- وقد وردت بعض العبائر، التي تتحدث عن صلبه وموته، من قبيل القول المنسوب إليه: [وفيما هم يترددون في الجليل قال لهم ابن الإنسان سوف يسلّم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم]([12]).

وقوله: [ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه. وفي اليوم الثالث يقوم]([13]).

وأمثال هذه العبارات التي أريد بها السيد المسيح (عليه السلام)، ولسنا الآن في مقام مناقشتها، وبيان عدم صحّتها فعلا، فإن ذلك يحتاج إلى بحث مستقل.

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - إنجيل متى: 9/1-8؛ مرقس:2/3-12؛ ولوقا: 5/18-26.

[2] - انجيل يوحنا: 5/27 .

[3] - إنجيل متى: 14/25-31.

[4] - إنجيل متى: 17/14-20.

[5] - إنجيل متى: 21/18-22.

[6] - إنجيل متى: 16/13-16.

[7] - إنجيل مرقس: 8/27-30.

[8] - إنجيل لوقا: 9/18-21.

[9] - اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر، ج1 ص132.

[10] - إنجيل متى: 16/20.

[11] - إنجيل متى: 12/40.

[12] - إنجيل متى: 17/22-23.

[13] - إنجيل متى: 20/18-19.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس    أرشيف المجلة     الرئيسية