مدخل
بعث الله
عزّ وجل رسول رحمته وأمين كلمته محمد بن عبد الله (صلى
الله عليه وآله)، بين يدي الساعة ليختم بنبوته ورسالته
التامة حجّته على خلقه، فهي خاتمة لما سبق، وفاتحة لما
يُستقبل من أيام قبل القيامة، وهي مهيمنة على الزمان كلّه.
جاءت هذه
الرسالة وشعارها الدعوة إلى العلم وإقامة العدل، وتكميل
الأنفس بخير المكارم وأجمع الفضائل وأتم البرهان وأعلى
الحكمة، وتعقّبت هذه الرسالة التجربة الإنسانية التي
تراكمت جهود أبنائها في مسيرة مضنية شاقة، حافلة بألوان
حمراء وسوداء، وقليل نادر من لون الراحة والهناء.
جاءت هذه
الرسالة تحمل النور والهداية إلى كلّ حقّ وحقيقة وصراط
مستقيم، تبثّ علمها وروح حكمتها وعطر بيانها بمنطق رقيق
عطوف شفيق، تدعو إلى سبيل رب العالمين بالحكمة والموعظة
الحسنة، وتحرص على سوق الأنفس إلى صراط العزيز الحميد،
برأفة الآباء وحنو الأمهات، تفتح لهم مغاليق أبواب
المعرفة، وتطرق عليهم باب سباتهم لتوقظهم من مهلكات
الغفلة، تُرادف في بيّناتها وتتابع في آياتها، وتخاطب كلّ
ذي عقل بعقله، وكلّ ذي فن بفنّه، وكلّ ذي معرفة وعلم في
معرفته وعلمه.
وإننا إذ
نقف معها اليوم وقفة تأمل في حدود مقال، أحبّ أن أبرز بعض
خصائصها وأُشير إلى بعض معالمها، محاولاً بذلك تكميل وعيي
عسى أن أكون في عداد طالبي الرشد، وعسى أن ألفت البعيد
عنها إلى بعض حقائقها، ومنه سبحانه استمد العون.
الحقيقة الأولى:
جامعية الرسالة
إننا نعتقد
جامعية الرسالة المحمدية الطاهرة لكل نواحي الحياة
الإنسانية ذات الصلة بالهداية إلى الحق والحقيقة، إن في
مجال الفكر والاعتقاد أو في ثمراتهما من صناعة الحياة
الطيبة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
فالملاحظ
بوضوح تام، أنها رسالة أضاءت أنوار شموسها جميع الآفاق
الداخلة في الاهتمام الإنساني، على مدى مساحة هذا الاهتمام
في الزمان والمكان وما يعتريهما من أحوال.
ويبتني
شمولها وجامعتيها فيما يبتني عليه:
أولاً:
أنها تعقّبت دعوة الأنبياء السابقين عليهم السلام،
وبالخصوص منهم النبيّين المكرَّمين موسى وعيسى على نبينا
وآله وعليهما السلام، وأخصّمها بالذكر لجهة أن امتداد
رسالتيهما عاصر ولم يزل عبر الموسويين والمسيحيين
(الأتباع) زمان الرسالة المحمدية، وقد كان من أتباع هاتين
الرسالتين الشريفتين أن عبَروا عن حدود نور الرسالتين
وتجاوزوا منطقيهما، وبعدوا بعدا مفرطًا عن دعوة الرسالتين،
ما ألحق هؤلاء الأتباع في عداد أهل الجاهلية، بل لعل
التأمل يفيد بأن عقدة هؤلاء المدّعين للتابعية كانت أشدّ
على الرسالة المحمدية -ولم تزل- من عقدة الجاهليّين أهل
الشرك أنفسهم.
وعليه، كان
لا بدّ من أن تعالج الرسالة المحمدية عقدة هذا المجتمع
الكتابي بثورة المفاهيم والأفكار والمنطق والاحتجاج عليه،
ما جعل الرسالة المحمدية مضطرة لتوسيع رقعة بيانها حتى
تشمل بعين عنايتها جميع ما شذّ عنه وشذّ به أهل الكتاب،
لذلك نجد في آيات الكتاب العزيز وفي سيرة رسول الله (صلى
الله عليه وآله) وسيرة أئمتنا عليهم السلام مساحة عريضة
مفردة لقضايا أهل الكتاب، ومن شواهد ذلك:
قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ
يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا
آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ}([1]).
وقوله
تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}([2]).
وقوله
تعالى{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا
أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ}([3]).
وقوله
تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ
لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}([4]).
ثانيًا:
مما يبتني عليه شمول الرسالة وجامعتيها أنها خاتمة
الرسالات الإلهية، فلا رسالة بعد الإسلام ولا نبي بعد محمد
(صلى الله عليه وآله).
وقد مضى على
هذه الرسالة ما يزيد على الأربعة عشر قرنًا، قطعت فيه
البشرية أشواطًا عريضة، وقفزت خلالها قفزات عملاقة، في
كثير من مجالات العلم، أقول العلم وليس المعرفة لأن
البشرية في مجال المعرفة دون الأمية بمسافات ومسافات، ذلك
أن المعرفة هي اكتشاف الحقائق ذات الصلة في مجال الفكر
والاعتقاد الصحيح وتحديد الضوابط الأخلاقية والروحية
والإيمانية من غيب وشهادة، هذا هو مجال المعرفة، وأين
البشرية منه؟.
أقول، لقد
قطعت البشرية في مجال العلم بالمادة الصماء واكتشاف بعض
أسرارها ما جعل المادة أقرب إلى وعينا ببركة هذه الكشوف
العلمية، وأقرب إلى الانتفاع بها في مجالاتها من تسخير
الطاقة ووفرة الإنتاج وما أشبه ذلك.
فكان من هذه
الرسالة المحمدية - وليتجلى لطف الله بعباده من خلالها
أكثر - أن سبقت كشوفهم العلمية، وأخبرت عن أسرار في المادة
وأسرار في قوانين الطبيعة، هي أبعد في المدى من خطوة الطفل
التي اجتازها إنسان العلم إلى يومنا هذا.
ففي أوائل
أيام الفتح العلمي - إذا صح التعبير- في مجال المادة، كاد
يشوش على إيمان الناس وعقولهم، من خلال الاحتفالات الصارخة
بالاكتشافات العلمية، حتى كاد بعض المؤمنين أن يروا في
الاكتشاف العلمي الموافق للرسالة الخاتمة سبب قوة لإيمانهم
برسالتهم وخالقهم ورسولهم، ولكن بعد فترة من الزمن، وعلى
وقع الكشوف العلمية المتلاحقة، أخذت تعتدل الحقيقة
للناظرين، فقد كشفت الرسالة النقاب عن بعض علومها في مجال
المادة والطبيعة والكون.
فهذه
مطالعات الرسالة وقولها في أصل تكوين الإنسان، وأنه بدأ من
التراب أو من الطين اللازب، وهذا هو العلم اليوم وبعد مرور
أربعة عشر قرنًا يؤكد هذه الحقيقة.... وقول الرسالة في
عالم الأجنة، وفي الرياح اللواقح، وفي بصمة الإبهام، وفي
حقيقة النسل، وفي سبح الأفلاك... إلى العديد من الحقائق
العلمية في عالم الكون والمادة، و نحن على يقين تام بأن
الاكتشافات العلمية ستبقى في سير ارتقائي دائم، وإلى جنب
ذلك سيكتشف الفاتحون أنهم في مرتبة التابع لا في ذروة
الفاتح {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً}([5]).
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[3]
- المائدة: من الآية64.
[5]
- الإسراء: من الآية85.
|