وليس البحث
في هذه النقطة لبيان أن القرآن كتاب متخصص في الجانب
العلمي كما قد يظن البعض، وإنما كان الداعي هو بيان جانب
الشمولية والجامعية، وبهذا لا يخرج القرآن عن كونه كتاب
نور وهداية، بل دخول هذه الميزة فيه هي من نوره وهدايته.
من هنا كانت
الرسالة المحمدية قد ضمنت في محتواها هذا الجانب وأعطته
حيِّزًا في مساحتها، على قاعدة السحر الذي جاء به موسى
(عليه السلام)، ليعرف أهل هذا الفن ونشطاؤه الكبار وأعلامه
الأعلام أنهم مربوبون لقدرة هي أكبر من قدرتهم، وأن من
أقدرهم على صنيعهم هذا هو أقدر منهم وأعلى، فبإبطاله
لسحرهم تجلّى لهم لطف من ألطاف الله تعالى، فعرفوا من
خلاله صدق موسى في دعواه النبوة فآمنوا به.
وأعتقد
جازمًا أنه كلما اقترب العلم من أسرار الوجود وآياته أكثر،
سيتجلّى سر آخر من أسرار صدق الرسالة وصدق الرسول (صلى
الله عليه وآله).
فهذه
الرسالة المحمدية الخاتمة بنت جامعيتها وشمولها للحقائق
العلمية الكونية، لتواكب الأزمان ومسيرة الإنسان، مع قيام
الحجة عليه، إذ برهان صدقها لكل ذي علم وعقل بين يديه، ومن
شواهد ذلك في القرآن الكريم:
قوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ
نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا
بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
([1]).
وقوله
تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}([2]).
وقوله
تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى
عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي
لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([3]).
وقوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا
نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً
ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً
وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ
كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}([4]).
وقوله
تعالى:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ}([5]).
ثالثًا:
مما بني عليه جامعية الرسالة المحمدية وشمولها، انفتاح
الانسان على مدنيّته، التي تشمل فيما تشمل بحسب تعبيرات
زماننا: حقوق المرأة والطفل، وضمان الشيخوخة، ونوع النظام،
وحقوق الأقليات، ونظام العلاقات المجتمعية، والنظرة إلى
الحياة، والحاجة أو عدم الحاجة إلى النظام الأخلاقي
والقيمي، ومقاييس الرقي والتخلف، وتعامل الإنسان مع
الطبيعة، وحرية الإنسان وحدودها، وصفات الحاكم، وقانون
الأحوال الشخصية، إلى غيرها من العناوين ذات الصلة بمدنية
الإنسان وقضاياها.
ولا شك أن
فكر الإنسان خلاّق ويُمتِعُه الابتداع والسبح في فضاءات
الفكر أو ما يخاله من الفكر، لذا كثرت النظريات حول كل
واحد من هذه العناوين التي ذكرناها أو التي لم نذكرها،
وعليه، كان لا بدّ - رحمة بهذا الإنسان إن شاء الرحمة
وإتمامًا للحجة عليه- أن تتطرق الرسالة المحمدية المطهرة
لعرض فلسفاتها وأفكارها حول هذه القضايا ذات الطابع المدني
في حياة الإنسان([6]).
وهذه بعض
الشواهد القرآنية على اهتمام الإسلام بالجانب المدني من
حياة الإنسان:
قوله تعالى
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ}([7]).
وقوله تعالى
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى
الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}([8]).
وقوله تعالى
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ}([9]).
وقوله تعالى
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ
مَسْؤُولاً}([10]).
وقوله تعالى
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ
لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}([11]).
وقوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}([12]).
إلى كثير من
الآيات التي تعالج قضايا في حقل مدنية الإنسان واجتماعه.
رابعًا:
بما أن الرسالة المحمدية الطاهرة تدعو إلى الإيمان بالغيب
- ومعروف أن مساحة الغيوب عريضة جدًا- من الإيمان بالله
وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، وإخبارات الكتاب
العزيز المستقبلية من مثل قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}([13]).
ومن مثل
قوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ}([14]).
ومن مثل
قوله تعالى - وإن كان بلسان التحذير ولكنه غيب مستقبلي
واقع ساقه الكتاب العزيز بلسان التحذير- {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([15]).
فهذه الآيات
الشريفة من غيوب الرسالة -وإن سيقت بلسان التحذير- إلى
غيرها من آيات غيب المستقبل، وآيات الغيب السابق، والغيوب
في مطاوي العوالم، من مثل القضاء والقدر في الآجال
والأرزاق.. إلخ، ممّا يؤّكد على اتساع مساحة الغيوب
وتنوعها، وقد اعتبر الكتاب العزيز الإيمان بالغيب مقوّمًا
للتقوى إذ يقول:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}([16])،
وهل من سبيل إلى الإيمان بالغيوب إلا عن طريق الإخبار
المؤيِّد للعقل في مساحة منه، وعن طريق الإخبار، خاصة في
الأمور التي ليس للعقل فيها مجال، فلا بدّ حينئذ أن تبيِّن
الرسالة الشريفة الغيوب وتعرّف، بها بحيث يزول حجاب البعد
عن تلك الغيوب، وتصبح لدى النفس بقرب الشهادة أو أقرب، مما
يعني لزوم بذل عناية بيانية حول الغيوب، ولذلك فعلاً اتسعت
رقعة البيان الرسالي إلى هذه الجهة وهذا الجانب ليكون هذا
مبررًا آخر من مبررات جامعيتها وشمولها، ونكتفي بذكر هذه
الدواعي الأربعة مما بنيت عليه جامعيتها وشمولها وإحاطتها،
ونحن في غنى عن الاستشهاد للجامعية بعد قوله تعالى: {مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}([17]).
يتبع =
ــــــــــــــ
[1]
- يونس: 5.
[6]
- إن عدم تطرقنا هنا لبلورة
نظام حكم للإسلام لا يعني عدم وجود هذا النظام،
ويكفي أن نشير إلى فترات الحكم المحدودة في حياة
النبي (صلى الله عليه وآله) وحياة أمير المؤمنين
(عليه السلام) للإشارة إلى إن الإسلام لم يخلُ من
نظام حكم، وإلا فهل كان حكمهما من غير هدى ولا
كتاب منير؟
[10]
- الإسراء: من الآية34.
[12]
- النساء: من الآية135.
[17]
- الأنعام: من الآية38.
|