سبق
وأُشير في حديث سابق في هذه المجلة الكريمة([1])
إلى مواطن تأثير اللغة العربية وفاعليتها ودورها الفاعل في
لغات العالم، وأنه ما من لغة إلا وتأثّرت وأخذت من غيرها
ألفاظًا شتّى، وتعابير ومصطلحات متنوعة، انسجامًا مع طبيعة
الحياة، وروح التطوّر، وحتمية العلاقات المتنوّعة التي
تنشأ بين الشعوب، إذ لا لغة بلا مجتمع، ولا مجتمع بغير
لغة، ولا مجال لأيّ تطوّر بشريّ وإنسانيّ إلا بالتعاون
المُثمر والمفيد عبر روابط متنوعة، تُفعِّل من عملية
التحاور والتخاطب والتواصل، وأعظم وسيلة لتحقيق هذه
المقوّمات هي اللغة.
وإذا كان البحث السابق قد تحدّث عن تأثير اللغة العربية في
غيرها من لغات العالم، فالبحث اليوم معاكس لما سبقه، إذ
أنه يتحدّث عن تأثير اللغات الأجنبية في لغتنا الحيّة، لغة
القرآن والإسلام والحضارة الإسلامية، ما الذي أخذته هذه
اللغة؟ وما الذي طرحته ولم تقبل به؟ وهل هناك من قيود
وشروط لحمل الدّخيل على اللغة، واستقباله في حرمها،
واعتماده مصطلحًا أو لفظًا نهائيًا؟
ولا يخفى على أحد ما كان للعرب من صِلات وعلاقات منذ
الجاهلية وحتى اليوم مع جيرانهم وسائر الدول والشعوب التي
يتبادلون معها المنافع والإمكانات والخبرات، وما كان
للفتوح الإسلامية شرقًا وغربًا من أثرٍ كبيرٍ على مستوى
اللغة والعلاقات والتّجارة والثقافة، ودائمًا يكون
للعلاقات بين الدول أثر ذو حدين، مؤثّر ومتأثّر، ومن هنا
فإن كل لغة تأخذ وتقدّم، تهضم ما يتلاءم مع قياساتها
اللغوية، وتُدخل ما تراه مناسبًا لتلحق بركب الحضارة
والتطوّر الذي ينمو يومًا بعد يوم، ويفرض مصطلحات ومسمّيات
علمية لا مناص من أخذ الموقف منها، هذا في مواجهتنا لما
يستجدّ كل يوم في العالم أجمع من اختراعات وإنجازات على
صعيد الفلك والطب وعلم النجوم والهندسة والرياضيات
والفيزياء والآداب... وما تُولّده هذه من صيغ ومصطلحات
جديدة، كذلك فيما نقدّمه نحن بلغتنا على الصّعد نفسها،
علمًا أننا ما زلنا مقصّرين في هذه الميادين، وعلماؤنا
وعباقرة الإنسانية من أبنائنا لم يجدوا إلا الغرب مكانًا
يُنجزون فيه خُططهم ويُشبعون فيه نهمهم إلى العلم
والاختراع، رغم المخاطر التي يتعرّضون لها، والتي أودت
بنخبة من المخترعين منهم، وهذا الأمر ليس موضوع البحث
الآن.
بناءً عليه، ما الذي أخذه العرب وأضافوه إلى لغتهم من
اللغات العالمية؟ وما الذي عرَّبوه، وما الذي تركوه كما هو
دون تعديلٍ؟
هذه الأسئلة والاستفسارات جميعها تدفع إلى تحديد معنى كلّ
من المعرَّب والأصيل والدخيل.
أما المعرَّب:
والاسم الآلي العملي له هو التّعريب، فيترك لدراسة منفصلة
خاصّة، لأهميته وتشعّبه ودوره الأساس في ضخّ اللغة بأنماط
من الاشتقاقات المتنوّعة.
يبقى الأصيل والدخيل، وهما متعارضان مائة بالمائة، ولا
يمتُّ كل منهما بصلة للآخر أبدًا.
فالأصيل: من
الأصل أو الأساس، هو الكلمة العربية النقيّة، التي لا لبس
فيها ولا شك بعربيتها الصّافية، هي كلمة معروفة ومتناقلة
ومستعملة في نتاجنا العربي ومتفق على أنها مستعملة وشائعة
منذ الجاهلية وحتى اليوم.
أما الدخيل:
فهو الهجين والغريب، والذي لا يمتّ بصلة في أي من جوانبه
إلى اللغة العربية، لأنه دخل كما هو في زيّه وسحنته وشكله
وإطاره الأجنبي، كما أنه اعتمد كما هو دون تغيير وتبديل
وإضافة وحذف من قبل مجامع اللغة العربية، وموافقة اللغويين
العرب([2]).
إذن هذا الدخيل بقي كما هو لعدم القدرة على تعريبه،
وإدخاله إلى صميم اللغة العربية، وإخضاعه لنواميسها
وقواعدها الاشتقاقية، فهو اللفظ الأجنبي الذي دخل ويدخل
اللغة العربية دون تغيير مثل: الأوكسجين- التلفون- راديو-
تلغراف.. إلخ.
والدخيل في اللغة هو الذي يداخلك في أمورك، وفلان دخيل في
بني فلان، إذا كان من غيرهم فتدَّخل فيهم، والدّخيل:
المُداخل المُباطن، وداء دخيل: داخل.
أما مصطلح "الدخيل" اللغوي عند ابن منظور في لسان العرب،
فلا يعدو أن يكون إشارة مُجتزأة إلى جوهر المصطلح بمفهومه
الأعم الأشمل، وهي بذلك تدلّ على فهمٍ متطوّر جليّ لظاهرة
الدّخيل في اللغة العربية، يقول: وكلمة "دخيل" أُدخلت في
كلام العرب وليست منه، استعملها ابن دريد كثيرًا في
الجمهرة([3]).
والحقيقة أن هذا الاستعمال هو "تعريب"، تبعًا لقول الجوهري
في الصّحاح: تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوّه به العرب على
مناهجها، تقول: عرّبته العرب وأعربته أيضًا.
ولم يستوِ الدخيل مصطلحًا خالصًا متّفقًا عليه عند العرب
بالدّقة والتحديد وإن حظي باهتمام السّلف في رحلة التصنيف
في غريب القرآن، ومعرفة تنقية اللغة بعد ذاك إلى أن جاء
الجواليقي، فأضفى عليه مزيدًا من الإيضاح عندما نظر إليه
بالقياس إلى العربي الأصيل أو الصريح، حيث قال في مقدمة
كتابه "المعرّب من الكلام الأعجمي": ((هذا كتاب نذكر فيه
ما تكلّمت به العرب من الكلام الأعجمي، ونطق به القرآن
المجيد، وورد في أخبار الرسول (صلى الله عليه وآله)
والصّحابة والتّابعين، وذكرته العرب في أشعارها وأخبارها،
ليُعرف الدّخيل من الصريح، ففي معرفة ذلك فائدة جليلة، وهي
أن يحترس المشتق، فلا يجعل من لغة العرب لشيء من لغة
العجم))([4]).
فالدّخيل والكلام الأعجمي هنا وُضِعَا في مقابل العربي
الصحيح، وتلك صورة تزيد مفهوم الدّخيل وضوحًا وتعزّز
استقراره مصطلحًا.
وهكذا تعمّم هذا المصطلح "الدخيل" بعد ذلك في تعابير حديثة
من مثل "المصطلحات الدخيلة، والعلوم الدخيلة" وما شابه ذلك
مما استُعير وأُخذ واعتُمد من اللغات الأخرى.
وإليك بعض النماذج من الكلام الدخيل على اللغة العربية:
بعض
ما أخذه العرب من الفرس:
وهو كثير جدًّا، وسنشير إلى الكلمات والمصطلحات ممّا عُرف
من دخيل توزّعته المصادر اللغوية من شعر ونثر ومعجمات
وأقوال.
وفي العصور الماضية -خاصّة في العصر الجاهلي- لم يكن العرب
يتحفّظون أو يحتاطون من أخذ ألفاظ أجنبية، ورغم ذلك كان ما
أخذوه قليلاً، علمًا أن صِلاتهم بالفرس كانت وثيقة عن طريق
المناذرة في الحيرة ودومة الجندل وجنوبي العراق، مما يُسهم
في فتح بابٍ للتبادل اللغوي عبر الأخذ والعطاء، والمحادثة
والمحاورة، وغير ذلك مما يمكن أن يخلّف آثارًا لغوية لا
يمكن تجنّبها والوقوف في وجهها.
ونقف قليلاً عند مثال واحدٍ أسهم في تغذية اللغة العربية
ببعض الدخيل الفارسي، هو الأعشى صناجة العرب، أو ميمون بن
قيس، وكان لاحتكاكه برهبان الأديرة، وبالجواري التركّيات،
ووقوفه على مسمَّيات غريبةٍ يعجُّ بها مجلس خمر في بيئة
فارسية مُترفة، ومشاهدته لألوان من الرّياحين وأنواع من
آلات الطّرب التي لم يعرفها العرب، كل ذلك جعله يقتبس
ويضمّن شعره كثيرًا من الألفاظ الفارسية، حتى ولو جاء ذلك
من باب الهزل والاستطراف.
وسأشير إلى بعض ما أدخله الأعشى في شعره من الفارسية:
أس - إبريق - بربط (آلة طرب) - بستان - بنفسج - خندق -
راووق - زبرجد - زمهرير - زنبق - زير - سنبك - سوسن -
صناجة - طنبور - شيدارة (بساط منقَّش وثمين، أو بُرد يشق
ثم تلقيه المرأة على عنقها من غير كُمَّين ولا جيب)، وقال
الأعشى:
إذا لبست شيدارة
ثم أرمَتْ
|
|
بمعصمها والشمس
لما ترجل
|
مكوك (آلة
تخص النسَّاج والخُيّاط)- مكيال - نمارق - ياسمين.
والملاحظ أن هذه المسمَّيات تتعلّق بآلة العيش، ومجالس
الطّرب، إلى جانب ألفاظ تتعلّق بالعمران، أو باللباس، وغير
ذلك مما لم تعرفه العرب على تلك الصورة.
ومما يشبه هذه الألفاظ أو المسمّيات أخذ العرب ألفاظًا
فارسية تتّصل بالثياب والألوان من مثل: إستبرق - جورب -
دخدار (ثوب)- ديباج - زركشة - سروال - جوخ - طيلسان - تبان
- خزّ - زرياب (ماء الذهب).
كما أدخل العرب ألفاظًا فارسية تتعلّق بالمعادن والأحجار
الكريمة، مثل: فولاذ - زئبق - دانق - إبريز - جوهر - خنجر
- جنزار - تنك - فيروز - لازورد - توتياء([5]).
ومن النباتات والرّياحين والأشجار المثمرة وغير المثمرة
أخذ العرب ألفاظًا لم تكن معروفة في لغتهم مثل: سنديان -
صنوبر - تفّاح - ترمس - مردقوش (الزعفران)- أزدرخت أو
زنزلخت - نسرين - ياسمين - باذنجان - جرجير - جزر - خيار -
سرو - لوز - زعرور - زنبق - هليون - أفيون.
وأخذوا من أسماء الحيوانات: سنجاب - سنّور - جاموس - دلق
(حيوان شبيه بالسنجاب) - ومن الطيور: كروان - ببغاء - باز
- شاهين - قُبَّح (الحجل).
ومن الأشربة والأطعمة: جردق (الغليظ من الخبز) - جلّاب -
شوربا - زلابية - رشته - بوظة - بقلاوة - سنبوسك - برغل -
فالوذج - كعك.
وسأذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يمكن وضعه في خانة
الألفاظ العامة الإدارية والتنظيمية:
ديوان - باره - نموذج - خندق - بريد - برنامج - دستور -
سرداب - دهليز - عسكر - سندان - صولجان - فرند - سباهي
(رتبة عسكرية، تحوّل معناها إلى مالك القرية) - قيروان -
بهلوان - تاج - مهرجان - مومياء([6]).
بعض
ما اقتبس من الآرامية:
كانت اللغة الآرامية حوالى سنة 500 قبل ميلاد المسيح اللغة
العامة الرسمية في كل بلاد الشرق الأدنى القديم، بعد أن
حلَّت مكان العبرية والكنعانية، في حين جعل الفرس آنذاك
الآرامية لغتهم الرسمية.
وقد اقتبس العرب من السّريان، وهم في مقدّمة الشعوب
الآرامية في الجاهلية والقرون الأولى للإسلام، فأخذوا منهم
حتى العصر السادس بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله)
مئات الكلمات التي تختصّ بالزراعة والصناعة والتّجارة
والملاحة والعلوم، كذلك استعاروا منهم ألفاظًا كثيرة
متعلّقة بالنصرانية بعضها سرياني والآخر من أصل يوناني.
وقد انتشرت اللغة الآرامية الغربية، المشتقّ اسمها من
آرام، اسم سورية في العبرانية، انتشرت بلهجات مختلفة في
الأناضول، سورية، لبنان، فلسطين، مصر، وشبه جزيرة العرب.
وقد بلغت السريانية - وهي أشهر لغات الآرامية الغربية -
أوجَّها وازدهارها من القرن الثالث إلى الثامن، عندما كانت
لهجة (الرها) السريانية اللغة الأدبية الوحيدة لكل نصارى
الشرق الأدنى، ثم تقلَّص نفوذها كثيرًا بعد الفتح العربي،
فصارت لغة كنسيّة لا غير، تُتلى بها صلوات القداس في
طائفتي الموارنة والسريان، وفي فترات الفتح العربي كان
أدباء سورية منكبّين على ترجمة أشهر مؤلفات اليونانيين إلى
السريانية، وقد حفلت أديرة رهبانهم بتلك الترجمات النفيسة،
فتردّد إليها أدباء عرب كثيرون، ونقلوا إلى لغتهم قسمًا
كبيرًا من كنوزها([7]).
يتبع =
ــــــــــــــــــــــ
[1]
- مجلة [رسالة النجف]، السنة الأولى، العدد
الثالث: ص 118.
[2]
- ابن منظور، لسان العرب: ج81 ص 241 ؛ حسن نور
الدين ؛ الموسوعات والمعاجم بين الماضي والحاضر ص
20 إلى 24.
[3]
- لسان العرب: ج11 ص16-17.
[4]
- الجواليقي، المعرّب من الكلام الأعجمي على حروف
المعجم: ص15، الجواليقي هو أبو منصور، موهوب بن
أحمد بن محمد بن الخضر المتوفى سنة 540 هجرية.
التراث العربي، عدد 71-72، د. مسعود البابا:
ص65-66.
[5]
- الأب رفائيل اليسوعي، غرائب اللغة العربية: ص ؛
مجلة التراث العربي عدد 71و72- د. مسعود البابا: ص
69-71.
[6]
- مجلة التراث العربي: عدد 71 و72 ؛ د. مسعود
البابا: ص 70-71.
[7]
- غرائب اللغة العربية: ص 170-171.
|