العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

      رجوع     التالي     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الله يتجلّى في الجمال

الشيخ مصطفى اليحفوفي

مقدمة:

قال بعض أهل المعرفة: إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، وهو قول قد بلغ الغاية في الصدق، وأدرك النهاية في الدّقة والعمق، إذ ما من عاقل يَنشُد الحق ويجانب التعصب إلا وهو يجِد بين يديه دروبًا مُمَهَّدة ومسالكَ مُعبَّدة تقوده إلى بواطن المعرفة، وتفضي به إلى مواطن اليقين. يستوي في ذلك من لم يحظَ من نور العلم إلا بقليله، ومن تبحّر فتوغّل واستفاض، فهما في أصل امتلاك الطريق إلى معرفة الله مشتركان، وإن اختلفت الحال بينهما بعد ذلك في عمق الدراسة ودقة البحث وتنوّع الشِعَاب.

وقد انعكس هذا الواقع على كتب العقائد وعلم الكلام، فاحتوت على جملة كبيرة من الأدلة تتناسب وطلابَ المعرفة مهما اختلفت مستوياتهم العلمية أو تباينت قدراتهم العقلية، فكان من بينها ما هو من قبيل ما استدل به الأعرابي حين قال: "البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام على المسير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، لا تدلان على اللطيف الخبير؟!"([1]).

كما كان من بينها أيضًا ما هو من قبيل (دليل النظم)، والذي يتّخذ من سنن الكون ومن دقة الصنع آية تحكي عن وجود الصانع وسعة علمه وعظمة شـأنه.

وتتوالى الأدلة بعد ذلك وصولاً إلى دليل الوجوب والإمكان، ودليل العلة والمعلول، ودليل صرافة الوجود... وغيرها من الأدلة العقلية والفلسفية. بل تمضي كتب العقائد إلى ما وراء ذلك لتطرق باب البداهة وتستلهم الفطرة المغروزة في كيان الإنسان والمجبولة بطينة وجوده، وتمضي قُدمًا فتسترشد بآيات القرآن الكريم وبكلمات آل بيت النبوة (عليهم السلام ) والتي تُعلّمنا أن معرفة الله سبحانه أوضح من أي برهان وأسبق من كل دليل، وفي هذا الباب نقرأ قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}([2])، ونقرأ أيضًا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء الصباح: (يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته)([3]). وكذلك قول الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة: (كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبًا)([4]).

والخلاصة هي أن كتب العقائد المتداولة قد استفاضت في عرض الأدلة، فتناولت ما هو في منتهى البساطة والسهولة منها، كما تناولت ما يمثّل الغاية في الدقّة والتعقيد، وقد اهتمّت بعض هذه الكتب اهتمامًا خاصًا بدليل النظم فتتبّعت العشرات من موارده، ولكنها وعلى الرّغم من ذلك كلّه قد غفلت عن آية هي من أجلى الآيات الإلهية على صفحة الكون، فلم تتّخذ منها دليلاً، وهذه الآية هي آية (الجمال)، والتي أولاها القرآن الكريم قدرًا كبيرًا من العناية والاهتمام.

موضوع البحث وحدوده:

إن غنى الكون بالجمال وانشداد الإنسان إليه من جهة، وعناية القرآن البالغة به من جهة ثانية، كانا هما الداعيين لكتابة هذا البحث. ولذا سنحاول دراسة الجمال بما هو آية من آيات الله في الكون تدلّ عليه سبحانه، وتشير إلى غنى صفاته.

فليس المقصود بالبحث إذًا دراسة الجمال على إطلاقه، ولا معالجة جملة من حيثيّاته المختلفة، وإنما المقصود هو التعرّض لبعض جوانبه مما له دخالة في تشكيل الدليل على وجود الله سبحانه.

ولذلك رأينا أن نقسّم البحث إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يتناول أولها الحضور الواسع للجمال في الكون، ويبيّن عمق صلة الإنسان به، ليتضح بذلك ما للجمال من أهمية تؤهّله لاحتلال موقعه الذي يستحقه كدليل بين الأدلة المعتبرة على وجود الصانع الحكيم.

ويتناول القسم الثاني مدى عناية القرآن الكريم بالجمال، ويبيّن كيف أن القرآن قد نصّ نصًا صريحًا على الجمال بما هو آية من الآيات الإلهية البيّنة، وإن أغفلته الدراسات العقائدية أو قلّ اهتمامها به.

وأما القسم الثالث فيحاول دراسة عناصر هذا الدليل وتبيان الأسس والمقدّمات التي يبتني عليها، وكيفية تأديتها إلى النتيجة المطلوبة، ليستوفي بذلك الشروط المرعية فيما يماثله من أدلة.

القسم الأول

جمال الكون وشَغَف الإنسان به

 

سراية الجمال في الكون

إن ما يفيض به الكون من جمال لا يحتاج إلى برهنة أو تدليل، بل يكفي أن يرسل المرءُ حواسَّه ويفتح قلبَه ليلتقي بالجمال في كل مكان، فالكائنات على تنوّعها بكبيرها وصغيرها، بعظيمها وحقيرها، بجليلها وبسيطها، تُنشد كلها أنشودة مشتركة عذبة اسمها الجمال، وهذا ما يجعل المرء في حيرة من أمره إذا ما حاول الاستعراض أو التتبّع...

فهل يتصفّح جمال الذرّة أم المجرّة؟! حبّة الرمل أم الصحراء والجبل؟!

وهل يلتفت إلى الزهرة بزهوّها، أو إلى النجمة بتلألئها؟!

أيتأملُ الطائر بسحر ألوانه، أم البركان في ثورته وفورانه؟!

أيُلمح إلى تعاقب الفصول، أم إلى تقلّب الليل والنهار، أم إلى هبوب الرياح وحركة السحاب، أم إلى تفتّح البراعم ونموّ الأحياء؟!

ثمّ هل يستعرض من مشاهد الجمال ما يملأ العين أو ما يُطرب الأذن أو ما يسرّ الحواس الأخرى؟!

{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}([5]).

فالجمال يتبدّى ظاهرًا للعيان في كل ناحية من أنحاء الوجود، بل هو يتغلغل في بواطن الأشياء أيضًا ليضفي على أعماقها السّحر والبهاء.

وكلما اتّسعت مدارك الإنسان اتّسعت دائرة الجمال أمام ناظريه وازدادت تنوّعًا وغنى، والشاهد على ذلك هو أن الإنسان بعدما توفّر على بعض الأجهزة الحديثة التي ساعدته في معرفة التركيب الداخلي للأجسام، فإنه وقع في الوقت عينه على كنوز مخبّأة من الجمال، بهرت بسحرها عيون البحّاثة والعلماء فقصّوا علينا في مصنفاتهم الكثير من أخبارها مما لا يسع المجال لاستيعابها، لذا سنكتفي بإيراد مثال واحد من أمثلتها المتعددة.

يقول مُؤلّفا كتاب "العلم في منظوره الجديد": ((إن الطبيعة تزخر بالجمال، ففي عالم الجماد مثلا تُظهر الجيودات والأحجار الكريمة والبلورات جمالاً في التناسق واللون والإشراق لا سبيل إلى إنكاره، ومن الأمثلة اللافتة للنظر على ذلك الندف الثلجية (...) ذات التنوع المدهش في أنماطها، وكلّها تستند إلى الشكل السداسي. ويحتوي كتاب "البلورات الثلجية" على ألفي شكل لنُدَف الثلج، بذل د. أ. بنتلي في تصويرها غاية جهده وعنايته طوال مدّة تقرب من خمسين عامًا... ومصمّمو المنسوجات والفنّانون يستوحون الأفكار من فهرس"البلورات الثلجية": الذي وضعه بنتلي، ويستعينون بما يسمّيه همفريز: معرض الطبيعة الدائم للزخرفة التوشيعية وتصاميم الجواهر والحلي))([6]).

إن الجمال الذي تُظهره الكائنات ومنها الثلج لا ينتهي عند حدود ما تتلقّاه العين المجرّدة، بل هو ينبثق من تركيبها الداخلي أيضًا ليُصبح محجًّا تؤمُّه أنظار الفنانين وتتجوّل في أرجائه عيون المبدعين.

وبذلك يتضافر الظاهر والباطن ليتلوَا معًا حكاية محبّبة عنوانها الجمال.

الإنسان والجمال

يتبدّى الجمال من جهته للإنسان، والإنسان من ناحيته مُهيّأ مجهز بكل ما يلزمه من أجهزة حسيّة وملكات نفسية لتلقّي الجمال والإحساس بروعته، وهذا ما يمهّد لنا الطريق لفهم ذلك الولع الإنساني الشديد بكل ما هو جميل، والذي نلمس تجلياته في مختلف فترات تاريخ الإنسان وأطوار وجوده.

فعناية الإنسان بالجمال قديمة قدم تاريخه متنوعة تنوّع مظاهر حياته، وهذا ما سنشرع الآن في استعراض جملة من شواهده:

الشاهد الأول: وهو يتمثّل فيما يُطلعنا عليه بعض العلماء إذ اكتشفوا رسومًا داخل كهوف يعود تاريخها إلى نحو عشرين ألف سنة مضت، وهي رسوم ربما تكون قد أُبدعت لأكثر من غاية، ولكن مما لا شك فيه أن الغاية الجمالية هي واحدة من أبرز تلك الغايات كما يرى بعض خبراء الفنّ. ولذا يعلّق الكسندر أليوت على تلك الرسوم بقوله: ((من الجائز أنها كانت ذات غايات سحرية أو غايات وثائقية، لا بأس: أما غايتها الرئيسية فقد كانت ولمّا تزل إيقاظ الروح وتنوير النفس البشرية. وهذا ينطبق على الفن العظيم في كل زمان ومكان))([7]).

ويؤكّد إروين إدمان على هذا المعنى نفسه فيقول: ((ولم يكتف الرجال بأن يحفروا لأنفسهم كهوفًا ومغارات، بل زيّنوا جدرانها بالرسوم، وبدأ الصانع البشري الذي اعتراه ما في الألوان والخطوط من متع محتملة، يحوم حولها متأنيًا. وإذا نحن تأملنا صناعة الخزف والسلال البدائية لتعذّر علينا التمييز فيها بين عمل الصانع وعمل الفنان على الإطلاق))([8]).

إن رسوم الكهوف، وصناعة الخزف والسلال البدائية، تطلعنا بجلاء على قِدَم علاقة الإنسان بالجمال ومدى شغفه بتلقّي نبضاته.

الشاهد الثاني: ومن الشواهد البارزة على عُمق صلة الإنسان بالجمال، أن الإنسان لم يكتفِ بهبات الطبيعة وما تُظهره من سحر وروعة، بل لقد تصدّى هو نفسه لخلق الجمال، فجرّد من اللون والصوت والشكل والحركة... فنونًا متنوّعةً كالتصوير والنحت والموسيقى... مما يعبّر عن نزعته الجمالية وينقله من دور المتلقي إلى دور الصانع المبدع.

الشاهد الثالث: ومما يؤكّد على شغف الإنسان بالجمال، سعيه الدؤوب لإضفاء صبغة الجمال على كل جانب من جوانب وجوده، حتى ما يتعلّق منها بأسباب العيش وضرورات الحياة، ولذلك عمل على تجميل وسائله وتزيين أدواته وتأنيق مظهره، فلم يكتفِ من طعامه بسدّ الجوع، ولا من لباسه بستر الجسد، ولا من أدواته بما تؤدّيه من أغراض عملية، بل لوّنها قاطبة بألوان من الزينة والزخرفة، ليشيع فيها جوًا من السحر ويُضفي عليها لمسة من لمسات الجمال.

الشاهد الرابع: وممّا يُظهر عُمق صلة الإنسان بالجمال أن انشغاله بالأشياء الجميلة يتعدّى فترات السكينة والأمان إلى الظروف الصعبة والأزمنة العسيرة.

يروي فكتور فرانكل من تجربته الشخصية في أحد معسكرات الاعتقال النازيّة ما يلي: ((ذات مساء فيما نحن مستلقون للراحة على أرضيّة السّقيفة نكاد نموت من الإعياء، وفي أيدينا طاسات الحساء، دخل علينا أحد زملائنا السجناء على عجل، وسألنا أن نهرع إلى ساحة التجمّع لنشاهد غروب الشمس الرائع. وفيما نحن وقوف خارج السقيفة شاهدنا الغيوم المنذرة بالشؤم تتوهّج من الناحية الغربية، والسماء كلها متلبّدة بالغيوم ذات الأشكال والألوان المتغيرة على الدوام من الأزرق الرصاصي إلى الأحمر القاني، وكانت سقائف الطين الرمادية الكئيبة تكشف عن فروق صارخة بالمقارنة، في حين كانت بُريكات الماء على الأرض الموحلة تعكس صور السماء المتوهّجة))([9]).

فالجمال يستحوذ على أحاسيس الإنسان، حتى في أصعب الظروف وأكثرها حرمانًا.

الشاهد الخامس: وهو يتجلّى في ارتباط الإنسان بالجمال حتى في حالات البله والجنون، وهذا مع ما عبّر عنه ألكسيس كاريل بالقول: ((إن الإحساس بالجمال موجود في الإنسان البدائي مثلما هو موجود في أكثر الناس تمدينًا.. بل إنه يبقى حتى عندما ينطفئ نور العقل، لأن الأبله والمجنون قادران على الإنتاج الفني.. فخلق الأشكال أو سلسلة من الأصوات التي تستطيع إيقاظ الإحساس بالجمال ضرورة أوليّة بطبيعتنا))([10]).

الشاهد السادس: وآيته أن كل حاسّة من حواسّ الإنسان تختصّ بإدراك نوع معيّن من المدركات، فالعين تُبصر الأشكال والألوان، والأذن تسمع الأصوات، وهكذا... ولكن ما يلفت النظر ويبعث على الدهشة هو أن الحواس جميعها تشترك في انفعالها بالجمال متخطّية بذلك حدود مدركاتها الخاصة لتلتقي سوية خارج تلك الحدود الضيقة في مجال أرحبَ للوعي، ينقلها من الاختلاف والتميّز إلى الاشتراك والتماثل، ويعرج بها من التجزئة والافتراق إلى التماهي والتوحّد.

الشاهد السابع: ومما يدّلنا على هَيَام الإنسان بحقيقة الجمال أن الإنسان قد تجاوز في خبرته الجمالية دائرة المحسوسات ومضى قُدمًا ليستشعر الجمال في الأمور المجردة والمعنويات، ولذلك نجده يستشعر الجمال في النظريات العلمية وفي المواقف الإنسانية وفي القيم المعنوية...

هذه الشواهد السبعة والتي تمثّل غيضًا من فيض تكشف عن الصلة القديمة والراسخة التي تربط الإنسان بظاهرة الجمال، وعن الاهتمام الكبير الذي يوليه الإنسان لهذه الظاهرة والتي تشغل حواسه وتملأ قلبه وتعم أوقاته وتتغلغل في مختلف مَنَاحي حياته حسيّة كانت أو معنوية.

والنتيجة التي يفضي بنا إليها القسم الأول من البحث هي أنه إذا كان للجمال ذلك الانتشار الواسع في أرجاء الكون، وإذا كان له في الوقت عينه تلك الأهمية الكبرى والصلة العميقة بحياة الإنسان، فإنه يجدر بنا إذًا أن نلتفت إليه كنعمة من النعم العظيمة، ونحاول دراسته كآية مرشدة إلى العلة التي أفاضت وأنعمت.

القسم الثاني : القرآن والجمال

عناية القرآن الكريم بالجمال

للقرآن الكريم عناية خاصة بالجمال، فهو نفسه يشكل تحفة فريدة من تحف الجمال تعتبر هي الأسمى من حيث روعة اللغة وبراعة الأسلوب وسحر البيان، وهذا ما شهد به أهل الذوق بمن فيهم الخصوم والمعاندون، ولا يزال قول الوليد بن المغيرة مجلجلاً حتى يومنا هذا، حيث وصف القرآن الكريم بقوله: ((والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى عليه))([11]).

ثم وعلاوة على تقديم القرآن نفسَه كنموذج فنّي لا يُضاهى، فإنه قد اهتّم بجمال الطبيعة اهتمامًا بالغًا داعيًا الإنسان إلى تصفح مشاهده والتملّي من بديع هباته.

ويمكن للمتتبّع أن يلاحظ أن القرآن الكريم قد تناول ظاهرة الجمال من جهات متعدّدة يمكن إجمالها في أربع جهات، ونحن سوف نبيّنها مستشهدين لكل جهة منها ببعض الآيات القرآنية مما نجده كافيًا في الإشارة إلى المراد، ولم نقصد إلى عرض جميع الآيات المتعلقة بالموضوع.

الجهة الأولى: وصف مشاهد الجمال

قال تعالى في كتابه العزيز: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}([12]).

لا يجد المرء في هذه الآيات المباركة ذكرًا للجمال باسمه، ولكنّه يجد الجمال حاضرًا في كل جزء من أجزاء هذه اللوحة الرائعة، ويشعر بالمشهد كله وقد تآلفت عناصره المتنوعة لتبدع وحدةً متناسقةً فوّاحةً بعبق الجمال، فهذه الآيات مع أنها لم تنص على الجمال بلفظه، ولكنها ومن خلال وصف مشاهده تشدّ انتباهنا إليه، وتجعلنا نقيم في حضرته مباشرة ونلقاه وجهًا لوجه.

الجهة الثانية: النص على الجمال بلفظه

من الآيات التي تنص على الجمال بلفظه قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}([13]).

ومنها قوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}([14]).

يلاحظ أن هذه الآيات المباركة تنصّ على الجمال بالألفاظ الدالة على معناه كـ(الجمال) و(الزينة)، ولا تقتصر على وصف مشاهد الجمال كما هو الحال في الآيات السابقة.

الجهة الثالثة: إبراز  بعض عناصر الجمال

إضافة إلى الوصف، وإضافة إلى النص على الجمال بلفظه، نجد القرآن الكريم يتناول الجمال بطريقة ثالثة، وهي إبراز بعض العناصر التي يتكّون منها الجمال، ومن أمثلة ذلك الألوان وما تتمّيز به من بهاء وتنوّع.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}([15]).

وقال في آية أخرى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}([16]).

وقال أيضًا: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}([17]).

تمثّل الألوان عنصرًا من العناصر المحسوسة للجمال، وقد اهتم القرآن الكريم بهذا العنصر اهتمامًا بالغًا، فتتبّعه في العديد من مجالاته لافتًا إلى السحر والبهاء الذي تبديه ألوان الصخور والنباتات والدواب والأنعام والناس والشراب الذي يخرج من بطون النحل... ويُنبّه القرآن في أثناء حديثه عن عنصر اللون على سمة اختلاف الألوان وتنوّعها، ممّا يُضفي على هذا العنصر رونقًا وحيوية تُبعدانه عن ملل التكرار وتنتشلانه من سأم الرَّتابة.

الجهة الرابعة: التنبيه على الأثر النفسي للجمال

كما يلفتنا القرآن الكريم إلى تجسّدات الجمال المختلفة في العالم الخارجي، فإنه يتوجّه بنا إلى العالم الداخلي للنّفس الإنسانية ليرصد ما يحدثه فيها الجمال من أثر.

قال تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}([18]).

وقال أيضًا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}([19]).

إن الجمال يماثل غيره من الحقائق المحسوسة إذ يشكّل موضوعًا من الموضوعات التي تلتقطها الحواس ويدركها الذّهن، ولكنّه يتميّز عنها جميعًا بما يُضفيه على النفس من شعور عميق يسر القلب ويَأسر اللُّبّ، وذلك هو الشعور بالبهجة.

دليل الجمال في القرآن

لم يولِ القرآن الكريم الجمالَ كل تلك العناية - والتي أشرنا إلى بعض أمثلتها - لأجل إمتاع الحواسّ أو إبهاج النّفس فقط، بل قصد من وراء ذلك إلى تحريك الفكر وهزّ الوجدان، ليرى الإنسانُ في الجمال آيةً تحكي عن وجود الله تعالى وتعكس بعض الظلال لبهاء صفاته، ولذلك نجد أن القرآن الكريم ينصّ صراحة على كون الجمال يشكّل آية جليّة من آيات الله الدالّة على عظمة وجوده تعالى، والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي بإيراد نماذج منها. على أنه يجدر الالتفات إلى أن ما قد يتكرّر الاستشهاد به من الآيات القرآنية فإن مردّه إلى اختلاف الغرض، حيث كان المقصود سابقًا الإشارة إلى مدى عناية القرآن بحقيقة الجمال، بينما المقصود هنا هو بيان أن القرآن قد نصّ على الجمال بما هو آية ودليل يشير الى وجود الله سبحانه وتتجلى فيه عظمة صفاته جلّ جلاله:

قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ}([20]).

يدعونا هذا النص القرآني إلى النظر في آيات الله ومن بينها البهجة التي يثيرها جمال النبات في النفس، ثم يبين لنا أن هذه الآيات إنما تمثل تبصرة وذكرى ليعقل الإنسان ويرجع إلى حضرة مولاه.

ومثل هذه الدعوة نصادفها في نصوص قرآنية عديدة، كما في قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}([21]).

وكذلك قوله سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}([22]).

فانظر كيف جعل سبحانه اختلاف الألوان آية لقوم يذّكرون، وكيف اتّخذ من بهجة الحدائق دليلاً على وجوده سبحانه، بل على نفي وجود شريك له في الصنع والتدبير.

ومن بين الآيات القرآنية التي تنص على الجمال كدليلٍ، نورد هذا النص الأخير:

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}([23]).

لقد جعل سبحانه ما يثيره اختلاف الألوان من جاذبية وسحرٍ علّة لخشية العلماء من الله جل جلاله، فهم عندما يلتقون بما تُظهره المخلوقات من جمال فإن نفوسهم تستشعر عظمة من أبدعه، وتتفتح بصائرهم على بالغ حكمته، وتدرك عقولهم سعة علمه، فتطغى على كيانهم الدهشة وتسيطر على قلوبهم الخشية.

والنتيجة التي يوصلنا إليها القسم الثاني من البحث هي أن القرآن الكريم قد اعتنى عناية بالغة بنعمة الجمال الواسعة الانتشار في الكون، والعظيمة الأهمية للإنسان، فلفت إليها مرارًا تكرارًا، ونصّ عليها كآية باهرة من الآيات الإلهية التي تدعو الإنسان إلى التدبّر والتعقّل.

القسم الثالث : كيفية الاستدلال بالجمال

أسس دليل الجمال

إن المنهج القرآني العام في تناول الأدلّة والآيات يعمَد إلى طرح أصل الدليل والإشارة إلى أهمّ معالمه، ثم يترك للإنسان نفسه عملية التتبّع والتدقيق، وترتيب المقدّمات، واستخراج النتائج.

فالقرآن الكريم يدعو وينبّه، ويُوكل الأمر بعدها للإنسان لكي يتأمّل ويتدبّر مستخدمًا ما وهبه إياه المولى من قدرة على الفهم والإبداع ليبحث ويحقّق، ويستنتج ويستنبط.

وقد مرّ بنا سابقًا مدى العناية التي أولاها القرن الكريم للجمال، وكيف نبّه عليه كنعمةٍ عظيمةٍ من نِعَم المولى سبحانه والتي تنهض كآية جليّة من آيات الله في الكون تدلّ على وجوده وتعكس بهاء صفاته.

وبقي علينا الآن أن ندرس أهم مقدمات هذا الدليل، والأسسَ التي يبتني عليها، والطريقةَ التي من خلالها يمكن تحصيل النتيجة المطلوبة.

ويبدو أنه هنالك أربع نقاط هامّة تشكّل مقدّمات أساسية في دراسة دليل الجمال، وهذا ما دفعنا إلى بحث كل واحدة منها بصورة مستقلة وتحت عنوان خاص.

المقدمة الأولى: وفرة الجمال وسعة انتشاره

أشرنا فيما مضى إلى ما يتمتع به الجمال من وفرة وسَعة انتشار، وذلك تحت عنوان (سراية الجمال في الكون)، ولا نريد هنا تكرار ما سبق بيانه، ولكننا ومن باب التأكيد فقط نذكر بعض أقوال العلماء والمفكرين في الموضوع.

 يقول ا. كريسي موريسون في كتابه "العلم يدعو إلى الإيمان": ((والجمال يبدو ملازمًا للطبيعة، وجمال السّحب وقوس قزح، والسماء الزرقاء، والبهجة الرائعة التي تملأ نفس الناظر إلى النجوم، وإلى القمر في طلوعه، والشمس في غروبها، وإلى روعة الظهر الفائقة، كل ذلك يهزّ مشاعر الإنسان ويسحره، وتحت الميكروسكوب تجد أصغر حيوان وأدقّ زهرة، تزيّنها خطوطٌ من الجمال مُحكمة الصنع، والخطوط البلورية التي للعناصر والمركبات، من نُدفة الثلج إلى الأشكال الأصغر منها، إلى ما لا نهاية، هي صادقة لدرجة مدهشة، حتى إن الفنّان ليس بوسعه إلا أن يقلّدها أو يجمعها معًا...))([24]).

ويقول "ديفيد بوم": (( كل ما يمكن العثور عليه في الطبيعة تقريبًا، يتبدّى عن شيء من الجمال، سواء في الإدراك الفوري له وفي التحليل الفكري))([25]).

ويقول "ألكسندر أليوت": ((يبدو أن الجمال وجه من أوجه كل شيء))([26]).

وأقوالهم في ذلك كثيرة متنوّعة يضيق المجال عن الاستفاضة في نقلها.

يتبع=

ـــــــــــــ

الهوامش

[1] - بحار الأنوار، العلامة المجلسي:  66/134.

[2] - سورة النور من الآية 35.

[3] - بحار الأنوار: 84/339

[4] - بحار الأنوار: 95/226.

[5] - سورة إبراهيم الآية 34.

[6] - روبرت م. أغروس، وجورج ن. ستانيو: العلم في منظوره الجديد، تعريب د. كمال خلايلي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، جمادى الآخرة 1409 هـ -شباط 1989 م، ص 69-71، والكتاب من سلسلة عالم المعرفة العدد 134. وقد نقلنا النص ببعض التصرف.

[7] - ألكسندر إليوت: آفاق الفن، تعريب جبرا إبراهيم جبرا، دار الكتاب العربي بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، بيروت-نيويورك، 1964، ص117.

[8] - إروين إدمان: الفنون والإنسان، تعريب مصطفى حبيب، مكتبة مصر، ص35.

[9] - انظر كتاب: العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص95.

[10]- ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، تعريب شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف - بيروت، ط3، 1980، ص154.

[11] - المحلى، السيوطي: تفسير الجلالين، دار المعرفة، بيروت، هامش ص 806.

[12] - سورة يس، من الآية 33 إلى 40.

[13] - سورة النحل، من الآية 6 إلى 8.

[14] - سورة الحجر، الآية 16.

[15] - سورة فاطر، الآية 27-28.

[16] - سورة النحل، من الآية69.

[17]- سورة النحل، الآية 13.

[18] - سورة ق، الآية 7.

[19] - سورة النمل، الآية 60.

[20] - سورة ق، من الآية 6- 10.

[21] - سورة النحل، الآية 13.

[22] - سورة النمل، الآية 60.

[23] - سورة فاطر، الآية 27-28.

[24] - ا. كريسي موريسون: العلم يدعو للإيمان، تعريب الأستاذ محمود صالح الفلكي، مكتبة النهضة المصرية – القاهرة، ص 134-135.

[25] - نقلاً عن كتاب: العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص 73.

[26] - آفاق الفن، مرجع سابق، ص159.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية