العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

      رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال - الله يتجلّى في الجمال

المقدّمة الثانية: الجمال حقيقة أصيلة

((قضى برنارد برنسون عصر أحد الأيام وهو يتأمل رسومًا صينية لمشاهد شتوية، وعندما نهض في النهاية ليذهب، رأى نافذة المتحف وقد امتلأت بغَسَق ثلجي، فهتف - مشيرًا إلى النافذة -: تلك أفضلها جميعًا))([1]).

لقد أحسّ برنارد أن مشهد الثلج الذي تَعرِضه الطبيعة، والذي تُشكّل النافذة إطارًا له، هو أجمل من جميع المشاهد الشتوية التي تعرضها لوحات المتحف.

تمثّل هذه المفاضلة بين الجمال الطبيعي والجمال الفنّي واحدة من قضايا عديدة تُطرح على بساط البحث حول طبيعة كلٍّ من هذين الجمالين، وحول الصّلة التي تربط بينهما.

ولكن الذي يهمّنا الآن من بين تلك القضايا هو السؤال عمّا إذا كان الجمال الطبيعي يعتبر أمرًا مرادًا ومقصودًا بالذات، أو أنه مجرّد أمر ثانوي وعارض؟ ويختص هذا السؤال بالجمال الطبيعي فقط دون الجمال الفنّي، إذ لا يشكّ أحد في أن الفنّان حين يرسم لوحة من اللوحات فإنه يسعى إلى خلق الجمال ويقصد إلى إبداعه، فاللوحة تُعبّر في المقام الأول عن الجمال، وهذا لا يمنع من وجود أغراض أخرى تحملها اللوحة في داخلها، بل لعلها تكون من العناصر الضرورية في بنائها وسموّ قيمتها، غير أن الفنّان إذا أراد للوحته أن تحمل مغزى من المغازي أو تنطق بمعنى من المعاني، فإنه لا يُبْرِزُ ذلك المغزى ولا يُطلق ذلك المعنى بصورة مباشرة، ولكنّه يوحي به إيحاءً من خلال الجمال الذي يشيع في أرجاء لوحته، فالجمال هو اللغة التي يستعملها الفنان في أداء رسالته، ولذلك يمكن القول وبكل جزم أن الجمال في الأعمال الفنّية هو أمر مقصود للفنان وليس مجرد شيء ثانوي أو عارض.

هذا فيما يتعلّق بالجمال الفني. فماذا عن الجمال الطبيعي؟

يبدو أن مسألة وجود قصد في الجمال الطبيعي لم تَسْلَم من المناقشة والأخذ والردّ، وقد ظهر في الإجابة على هذه المسألة اتجاهان، يرى أحدهما أن الجمال لم يكن أمرًا مقصودًا في عالم الطبيعة، بينما يرى الآخر عكس ما يراه الأول.

وممن تبنّى الاتجاه الأول الفيلسوف الفرنسي "جان بول سارتر" في كتابه (ما الأدب؟)، فهو يُرجع وجود الجمال في الطبيعة([2])إلى الضرورة وحتمية القوانين، نافيًا أن يكون هنالك أية إرادة أو قصد وراء ما تزخر به الطبيعة من جمال، ويرى أنه : ((يمكن شرح العشب الأخضر على حسب قوانين علم الحياة وبمقتضى خصائص ثابتة وبحكم ما تُحتّمه العوامل الجغرافية، على حين اللون الأزرق في الماء سببه عمق النهر أو طبيعة المجرى أو سرعة التيار...))([3]).

وهذا يعني عنده أن زرقة الماء - مثلاً - لم تكن مقصودة بحيث تضفي على الماء جمالاً يروق لعين الإنسان، وإنما هي قوانين الطبيعة تؤدّي وظائفها، فيظهر نتيجةً لذلك الجمال وبصورة عرضية غير مقصودة ولا مرادة، فليس الجمال سوى مظهر ثانوي تفرضه قوانين المادّة وتحتّمه ضروراتها.

هذه هي خلاصة الاتجاه الأول.

أما الاتجاه الثاني فإنه يرى أن حتمية القوانين لا تكفي وحدها لتفسير ظهور الجمال، بل الجمال وجد نتيجة إرادة ووعي مما يجعله أمرًا مقصودًا بالذات، وليس مجرّد شيء ثانوي وعارض كما يراه أصحاب الاتجاه الأول.

ويمكن الاستدلال على ذلك بما أورده مؤلّفا كتاب "العلم في منظور الجديد" حيث قالا: ((لنأخذ قياسًا تمثيليًا لذلك. فقد يستطيع أحدنا أن يبني مصنع سيارات مجهّزًا كليًا بمعدّات ميكانيكية لإنتاج عربات جميلة، بل هو قد يستطيع أن يركِّب في الآلية الجمال الناتج عن التصميم واللون، ولكن الجمال في السيارة لا يُصبح بذلك ضرورة مطلقة، إذ تظلُّ العربات البشعة قادرةً على نقل الركّاب بفعالية. ومن الممكن اختراع آلات لإنتاج عربات كهذه بالطريقة نفسها. ليست هنالك أي ضرورة مطلقة تَفرض في المقام الأول أن تشتمل القوانين الفيزيائية للطبيعة على البساطة والتناسق. ولنا أن نتصوّر كونًا آخر ذا قوانين طبيعية غير متماثلة ومعقّدة لغير ضرورة يُنتج نُدَفًا ثلجية بشعة بضرورة ميكانيكية. الضرورة إذن لا تقدّم تفسيرًا نهائيًا للجمال الذي نجده في الجوامد))([4]).

ومعنى ذلك هو أن جمال كائنات الطبيعة مع أنه قد ينبع من صميم القوانين الفيزيائية والكيمائية، ولكن ما يجب ملاحظته هو أن هذه القوانين قد انتُخبت بطريقة خاصة بحيث تُنتج الجمال إلى جانب الوظائف الأخرى المرتبطة بالأشياء، إذ إنه لم يكن من المستحيل أن توجد هذه القوانين بصورة أخرى مختلفة بحيث تعطي الأشياء جميع خصائصها المطلوبة دون أن تمنحها الجمال. وهذا شديد الشّبة بالمصنوعات البشرية، إذ من الممكن تصميم مصنع للسيارات - والمصنع هو بمثابة قوانين الطبيعة - يُنتج سيارات متينة وسريعة وقادرة على نقل الركّاب بأفضل صورة، ولكنها تكون مع ذلك كلّه سيارات ذات مظهر بشع. وبالمقابل فإنه يمكن تصميم المصنع بطريقة ثانية بحيث يُنتج جميع المواصفات السابقة إضافة إلى الجمال.

وعليه فإننا حين نجد أن السيارات التي تخرج من المصنع تمتلك جميع المواصفات المرتبطة بما يناط بها من وظائف عملية، وهي علاوة على ذلك سيارات تتميّز بخاصية الجمال، فإننا ندرك أن هذا المصنع قد رُوعي في أساس تصميمه أن ينتج الجمال.

والأمر عينه ينطبق على قوانين الطبيعة، فمما لا شك فيه أن جمال الكائنات إنما يَصدر عن هذه القوانين، ولكن المهمّ في المسألة هو أن هذه القوانين قد صُمّمت بالصورة التي تَهَبُ الكائنات كل ما يُناط بها من وظائف ومستلزمات، وتَهبها في الوقت ذاته سِمَة الجمال، وإلا فإنه لم يكن من المحال وجود قوانين تَصدر عنها جميع الوظائف المختصّة بالموجودات ولكن لا يصدر عنها الجمال.

فالجمال إذًا لا تُحتّمه الوظائف ولا تَفرضه الضرورات، بل هو أمر زائد على الضرورة ومقصود بالذات.

هذا ويمكن لأصحاب الاتجاه الثاني أن يعرضوا نمطًا آخر من الأمثلة يتجلّى فيها القصد الجمالي بصورة أشد وضوحًا من نمط الأمثلة المحدودة التي طرحها (سارتر)، وذلك من قبيل الزخرفة التي تُزيّن ريش الطيور، وكذلك الأشكال والتخطيطات التي تُظهرها أوراق الأشجار، وأيضًا الألوان الزاهية والمتنوعة التي تتميّز بها الزهور، وإلى آخر القائمة مما يضيق المجال عن وصفه وتعدَاده. ولنذكر بشيءٍ من التفصيل مثالاً واحدًا من أمثلة هذا النَّسق، وليكن موضوع مثالنا هو (صوت الإنسان). إنّ الصوت لدى الإنسان يمثّل آية باهرة من آيات الجمال في الكون، وهو يبرهن بوضوح على أن الضرورة لا يمكنها أن تفسّر وجود الجمال، ((فصوت الإنسان أكثر براعة وتعبيرًا من أيّ آلة موسيقية، والضرورة لا تستلزم أن يكون للإنسان صوت قادر على إخراج نَغَمات حلوة، إذ يكفي أن يكون له صوت رتيب وممل، أو صوت خشن، للاستغاثة أو للتعبير عن حاجات بدنه، و"داروين" نفسه أقرّ بأن الضرورة لا تستطيع أن تفسّر ما حُبِيَ به الإنسان من مواهب موسيقية فطرية، فقد قال: "وحيث إن الاستمتاع بالأنغام الموسيقية والقدرة على إطلاقها ليسا من الملكات التي تعود على الإنسان بأدنى نفع في عاداته اليومية الحياتية، فلا بد من تصنيفها في عداد أكثر الملكات التي حُبِيَ بها الإنسان غموضًا"))([5]).

وعليه يتبين أن الاتجاه الثاني هو الأولى بالقبول، ولذلك يمكن القول أن وجود الجمال في الكون لا يمكن تفسيره بأنه أمر قَسريّ تُحتّمه قوانين الطبيعة، إذ من الممكن كما رأينا أن نتصوّر بدائل لهذه القوانين لا تؤدّي بالضرورة إلى ظهور الجمال، كما لا يمكن تفسيره بأنه أمر تفرضه طبيعة الأشياء وما يُناط بها من وظائف، إذ بيَّنّا أن هذه الوظائف لا تستدعي تلك الزيادة الفائضة على الحاجة وعلى ضرورات البقاء، وهو ما مثّلنا له بصوت الإنسان وما فيه من روعة وتنويع نَغَمي كبير لا تستلزمه الوظائف الحياتية ولا تفرضه الشؤون المعيشية. وهذا ما يؤدّي بنا إلى القول بأن حقيقة الجمال هي حقيقة زائدة على الضرورة، ومقصودة بالذات، أي أنها حقيقة أصيلة من حقائق هذا الوجود.

المقدمة الثالثة: البُعد الجمالي في حواسّ الإنسان

للحواسّ وظائفها العملية التي تُعين الإنسان على تدبير شؤون حياته وتمكّنه من البقاء، فهو بواسطتها يستطيع الحصول على مقوّمات وجوده من ماء وغذاء ومسكن وملبس، كما يستطيع بواسطتها أيضًا تمييز الأخطار وتجنّبها...

ولكن الذي يجدر ملاحظته هو أن عمل الحواس لا ينتهي عند حدود هذه الوظائف، بل إن طبيعة تركيبها قد زوّدتها بِقُدُرات أخرى جعلت منها أجهزة مُهيأة للإحساس بالجمال.

فالأُذن مثلاً لا تقتصر على إدراك الأصوات بما لها من دلائل عملية ومهام وظيفية، بل هي تقوم فوق ذلك بإدراك فروقات صوتية دقيقة تُمكّنها من الإحساس بما في الأصوات من عذوبة مما لا صلة له بحياة الإنسان العملية وما تفرضه عليه شروط الوجود وقوانين البقاء.

يقول ا.كريسي موريسن: ((إن جزءًا من أُذن الإنسان هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حَنية "قوس" دقيقة معقّدة، متدرّجة بنظام بالغ في الحجم والشكل. ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنها مُعدّة بحيث تلتقط، وتنقل إلى المُخّ، بشكل ما، كل وقع صوت أو ضجّة، من قصف الرعد إلى حَفيف الشجر فضلاً عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأوركسترا ووحدتها المنسجمة. لو كان المراد عند تكوين الأذن أن تُحْسِنَ خلاياها الأداء كي يعيش الإنسان، فلماذا (...)([6]) يمتدّ مداها حتى تصل إلى إرهاف السمع؟ لعل "القوّة" التي وراء نشاط هذه الخلايا قد توقّعت حاجة الإنسان في المستقبل إلى الاستمتاع([7])الذهني أم أن المصادفة قد شاءت تكوين الأذن خيرًا من المقصود؟))([8]).

وما يصدق على الأذن يصدق على العين وعلى بقية الحواس أيضًا، مما يدلّ على أن حواس الإنسان قد أُعدّت لتلقي الجمال إضافة إلى ما لها من وظائف عملية.

المقدمة الرابعة: ابتهاج النفس بالجمال

لقد حُبِيَت جملة من الكائنات الحيّة بموهبة عظيمة تتمثّل في قدرتها على الوعي والإدراك، وتتجلّى هذه القدرة بأسمى مراتبها في الإنسان. بيد أن النفس الإنسانية تمتاز فوق ذلك بخاصيّة فريدة لا يمتلكها أيّ من الأحياء الأخرى، تلك هي خاصية الدهشة والشعور بالبهجة.

يقول مؤلفا كتاب "الحواس في الإنسان والحيوان": ((أليست القدرة على الدهشة والإعجاب من الخصائص القليلة المميزة فعلاً للإنسان عن غيره من الكائنات الحيّة؟!))([9]).

ويقولان أيضًا: ((ولعل معظم الأصوات في الطبيعة تتولّد نتيجة نشاط من نوع ما. ومن المشكوك فيه أن سماعها يلذ لأي مخلوق عدا الإنسان))([10]).

فالإنسان يدرك، وتشعر نفسه بالبهجة والإعجاب تجاه بعض ما يدركه، وهنا يكمن السرّ في تعلّق الإنسان بالجمال وتقديره إياه، فلو كانت النفس تدرك فقط، من دون أن يحرّك ما تدركه مكامنها، ولا يثير فيها تلك المشاعر الخاصة من الفتنة والابتهاج، لفقد الجمال قيمته، ولَخَسِرَ كل معناه، وبذلك يظهر أن كل ما يزخر به الكون من سحر وبهاء، ما كان ليتخّذ أي معنى أو يكتسب أية قيمة، لو لم تكن النفس الإنسانية مهيأة للشعور بالبهجة ومتّسمة بالقدرة على الاندهاش.

كيفية الاستدلال بالجمال

تشكّل المقدمات الأربع المذكورة العناصر الرئيسية لدليل الجمال، ولا بد لكي يكتمل البحث من القيام بعملية تركيب تؤلّف بين هذه المقدمات، وتستخلص ما يترتب عليها من نتائج:

تناولت المقدمة الأولى قضية وفرة الجمال وسَعة انتشاره في الكون. وفائدة هذه المقدمة هي إرجاع الجمال إلى وجود عقل مدبّر وإرادة حرّة، مما يلغي دور الصدفة وعامل الاتفاق في ظهور الجمال ووفرة وجوده. وبيان ذلك هو أنه لما كان الجمال على هذه الدرجة الكبيرة من السعة والانتشار، فمن غير المحتمل أن يفسّر ذلك على أساس معطيات الصدفة وعامل الاتفاق، إذ ليس من شأن الصدفة أن تتصف بالعموم والاطّراد، بل كلما اتصفت ظاهرة من الظواهر بالعموم أو الاطّراد، فإن ذلك سيشكل دليلاً على استبعاد الصدفة وخفض درجة احتمالها، أو على إبطالها وإلغاء دورها([11]).

وهذا معناه بالنسبة لبحثنا هو أن ما يتّسم به الجمال من وفرة وانتشار، لا يمكن إرجاعه إلى عامل الصدفة والاتفاق، بل لا بد من القول أن هنالك قصدًا وتدبيرًا هما المسؤولان عن ظهور الجمال ووفرة وجوده في الكون.

ولكن لقائل أن يقول: إن إبطال دور الصدفة في ظهور الجمال لا يفضي حتمًا إلى افتراض عقل مدبّر هو الذي عمد إلى إيجاده، إذ هنالك بديل آخر يمكن أن يكون هو السبب في وجود الجمال، وهذا البديل هو عامل الضرورة، بمعنى أن الجمال لا يشكّل حقيقة أصيلة من حقائق الكون ليكون له علة خاصة تقف وراء وجوده، وإنما هو أمر ثانوي وعرضي أنتجته القوانين الطبيعية وبصورة عفوية، فزرقة الماء مثلا لم تظهر نتيجةً لوجود قصد ووعي أرادا للماء أن يتّصف بصفة الجمال، بل هنالك قوانين تحكم الأجسام وطريقة امتصاصها للضوء، وتحكم الضوء وطرق انعكاسه، وكنتيجة لهذه القوانين يظهر اللون الأزرق في الماء بالضرورة، ولم يكن المراد هو أن يوجد لون يسحر الإنسان ويثير فيه مشاعر الجمال.

وبذلك يتبين أنه لا يمكن الحديث عن وجود قصد يقف وراء ظهور الجمال في الكون، إذ حتى مع التسليم ببطلان دور الصدفة، فإنه يبقى في البين دور عامل "الضرورة"، والذي يمكن على أساسه تعليل وجود الجمال.

هنا يأتي دور المقدمة الثانية، وهي المقدمة التي أوردناها تحت عنوان "الجمال حقيقة أصيلة"، والتي بيّنّا فيها أن الجمال ليس حقيقة ثانوية وعارضة قد فرضتها طبيعة الحقائق الأخرى ليكون هو من توابعها وملحقاتها، بل الجمال عنصر أصيل وزائد على الضرورة، أُريد له أن يظهر على صفحة الكون كحقيقة خاصة إلى جانب الحقائق الكونية الأخرى.

وعليه، فإذا بطل دور الصدفة بناء على المقدمة الأولى، وبطل أيضًا عامل الضرورة، بناء على المقدمة الثانية. فإنه يتحتّم عندها أن تكون العلة في إبداع الجمال هي عقل واعٍ وإرادة هادفة.

هذا فيما يتعلّق بالمقدمتين الأولى والثانية، واللتان أُنيط بهما معالجة الجمال من جهة وجوده وحضوره في الكون.

أما المقدمتان الثالثة والرابعة فهما تتّجهان إلى معالجة القضية من جهة الإدراك الإنساني ومن الزاوية المتعلّقة بالإحساس والشعور.

ولذلك جاءت المقدمة الثالثة: "البعد الجمالي في حواس الإنسان" لتبيّن أن هذه الحواس قد رُكّبت بصورة تمكّنها من إدراك أمور تفيض عن حاجة الإنسان، وتتجاوز مستلزمات بقائه، وهذا ما يعطيها القدرة على التقاط نبضات الجمال التي يزخر بها العالم الخارجي، الأمر الذي لا يمكن تفسيره على أساس سنن الطبيعة وقوانين بقاء الأحياء وبمعزل عن وجود القصد والإرادة الحرّة، وذلك لأن قوانين المادّة وعوامل التطوّر تقتضي أن يمتلك الإنسان من الخصائص والقوى ما يجعله قادرًا على التوافق مع ظروف البيئة والانسجام مع شروطها ومتطلباتها، مما يمنحه إمكانية العيش ويزوده بالقدرة على البقاء.

ولكن حين نجد أن قدرات الإنسان والخصائص التي تمتلكها قواه الحسيّة تفيض كثيرًا عن حاجاته الحيوية، وتزيد على متطلبات توافقه مع البيئة زيادة كبيرة، فلنا حينئذ أن نتساءل عن العلة التي يصدر عنها ذلك الفائض، وعن الغاية من وجود هذه الزيادة في القدرة الإدراكية للحواس؟!

فإذا كانت سنن التطور وشروط التوافق مع البيئة تقتضي أن يمتلك الإنسان قدرة معينة على السّمع ودرجة خاصة من الإبصار تستقيم معهما حياته ويحافظ بهما على وجوده، فمن أين يأتي ذلك الفائض البعيد المدى في قدرة العين والأذن ليجعلهما تستشعران أمورًا تفوق الحاجة وتتجاوز متطلبات البيئة، فتهيئان النفس للإحساس بالروعة وتمهدان لها الطريق للإعجاب بالجمال؟!([12]).

إن التفسير الوحيد الذي يمكن تبنّيه لفهم هذا الأمر هو وجود عقل مدبّر أراد لحواسّ الإنسان أن تتجاوز في قدراتها الإدراكية حدود الحاجة وتتعدّى متطلبات البقاء.

والأمر عينه يصدق على المقدمة الرابعة: "ابتهاج النفس بالجمال"، فكما يوجد فائض في قدرة الحواس على الإدراك يؤهّلها للتفاعل مع آيات الجمال، فإنه يوجد فائض مماثل يختص بالنفس الإنسانية حيث نراها تمتلك من المشاعر ما لا صلة له البتّة بالحفاظ على حياة الإنسان ولا باستمرار وجوده، فهي مشاعر تختلف في وظيفتها عن غيرها من المشاعر، إذ أنها تهب الإنسان شعورًا بالبهجة ونفحة من التسامي، لا تستثيرهما المشاعر والأحاسيس الأخرى من قبيل الإحساس بالجوع والعطش، أو من قبيل الشعور بالخوف والأمن مما يقوم بدور جلي في عملية حفظ الحياة واستمرار الوجود.

فما هو السرّ الكامن وراء ذلك الفيض من المشاعر والتي لا علاقة لها بواقع الحاجة ولا بشروط البقاء؟

إن التفسير الوحيد والمعقول هو التسليم بوجود عقل مبدعٍ، أراد للإنسان أن يكون مخلوقًا فريدًا يتعدّى في وعيه حدود المادة، ويتجاوز شروط البيئة وقوانين الضرورة.

بهذا تتآلف المقدمات وتكتمل النتيجة، فيتضح جليًا أن الجمالَ يشكّل دليلاً ساطعًا على وجود صانع مدبّرٍ مبدعٍ للكون وقائم على إدارة شؤونه.

وهذه حقيقة لافتة قد استقطبت العديدين من أهل الفكر وأرباب القلم، فعبّروا عنها ببيانات ساحرة، تتّسم في الوقت عينه بالعمق والنفاذ.

يقول "ا.كريسي موريسن": ((والطبيعة إذا لم تنلها يد التشوية، تبدو وكأنها أُعدّت لكي تستدرّ أسمى الشعور في نفوسنا، وتلهمنا الإعجاب بصنع الخالق الذي وهبنا نعمة الجمال، تلك التي لا يدركها بكل كمالها غير الإنسان! والجمال هو الذي يرفع الإنسان وحده إلى درجة يكون فيها أقرب إلى الله))([13]).

ويقول مؤلفا كتاب: "العلم في منظوره الجديد": ((والبشر يلحظون يد الله في نُدفة الثلج وفي غروب الشمس وفي حقل الأعشاب، وعظمة الجمال وجلاله يحملان توقيع الله الذي لا شبهة فيه))([14]).

ويقول "توماس مان": ((الجمال وحده إلهي ومرئي معًا))([15]).

ويُورد الكاتب اليوناني "نيكوس كازنتزاكي" هذا الحوار:

((قلت لشجرة اللّوز...

حدّيثني عن الله يا أختِ..

 فأزْهرت شجرة اللوز...))([16]).

تشكّل هذه النصوص غيضًا من فيض مما يمكن نقله عن كبار الفنانين والأدباء والمفكّرين الذين عبّروا عن تجلّي صفات الله وأسمائه الحسنى في حقيقة الجمال، غير أن المجال يضيق عن الاسترسال في إيراد المزيد.

كلمة ختامية

وفي الختام أجد أنه لا بد لاستكمال البحث من تسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: إن همّنا في هذا البحث كان منصبًّا في المقام الأول على تأصيل دليل الجمال وبيان أُسسه، ولذلك قصرنا الحديث على الاستدلال على وجود الله فقط دون سائر النتائج التي يمكن ترتيبها على هذا الدليل، من قبيل إثبات وحدانيته تعالى، أو غير ذلك من صفاته العليا تقدّست أسماؤه.

ثانيًا: إننا وإن كنا قد سلّطنا بعض الضوء على موضوع الجمال في القرآن الكريم، وطرحنا نوعًا من التصنيف للجهات التي قاربت بها الآياتُ القرآنية ظاهرةَ الجمال، مما يشكّل مفتاحًا ضروريًا لدراسة الرؤية القرآنية للجمال، غير أن الموضوع يحتاج إلى أبحاث أخرى متعدّدة، والى جهود متضافرة لتجلية حقيقة الرؤية القرآنية للجمال، ولاستخراج الثمرات المتنوّعة لتلك الرؤية الفذّة، والتي يمكن أن يكون من جملتها تلمّسُ بعض جوانب الإعجاز للكتاب العزيز.

ثالثًا: قد يظن البعض أن الجمال لا يصلح أن يشكّل دليلاً على وجود الله إلا بناءً على القول بأن حقيقة الجمال هي من الحقائق المطلقة لا من الحقائق النسبية، ولكن الواقع هو أن الطريقة التي عالجنا بها دليل الجمال لا تعتمد على ذلك، بل هي تنسجم حتى مع القول بنسبية الجمال، وذلك لما بينّاه من أن الجمال يمثّل عنصرًا زائدًا على الضرورة، وأن الإنسان مزوّد بقوى حسيّة وبمشاعر نفسيّة فائضة على مستلزمات البقاء، مما يُفضي إلى القول بوجود قدرة مدركة ومريدة تقف خلف تلك الأمور كلها، وتُحدث ذلك التوافق العجيب بينها، مما يمهّد للإنسان أن يدرك الجمال  ويبتهج لحضوره، فيكفي في مسألتنا أن يكون الإنسان مزودًا بقدرات ومواهب فائضة، تبعث فيه الإحساس الجمالي، لنصل من خلال ذلك إلى النتيجة المطلوبة من بحثنا، وليس من الضروري بالنسبة إلى تلك النتيجة أن يكون ما يراه شخص جميلاً هو جميل في أعين كل الناس.

وأخيرًا، وبعد اللُّتيا والتي، لا ريب أن الجمال يمثّل كنزًا ثمينًا من كنوز هذا الوجود، ونعمة عظيمة من نعم المولى علينا، فيجدر بنا أن نشكر تلك النعمة بتوجيه عنايتنا إليها، فندرس الجمال لذاته وبما ينطوي عليه من قِيم ذاتية، ونبحثه لغايته وبما يشتمل عليه من قِيَم دلالية، فهو من الناحية الأولى يؤنس الحسّ ويبهج النفس ويُمتع القلب، وهو من الناحية الثانية يُدهش اللبّ ويحرّك العقل ويعبر بالإنسان من النسبية والمحدودية إلى المطلق واللانهائية.

إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، ولا شك في أن الجمال هو واحد من أقرب تلك الطرق إليه سبحانه.

انتهى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - نفسه، ص 192.

[2] - يقع الحديث حول الجمال الطبيعي في مقامين إذ هو قد يتناول ظاهرة مفردة كجمال زهرةٍ أو جمال خضرةِ العشب أو زرقة الماء، وقد يتناول مشهدًا مركبًا كجمال منظر مؤلّف من البحر والسماء والسهل والشجر، فيحاول تعليل ما في هذا المنظر من تناسب، ولكننا ورومًا للاختصار قَصَرنا الكلام على المقام الأول فقط، إذ يكفي أن ندلّل على أن ما يوجد في الظاهرة المفردة من جمالٍ هو أمر مراد ومقصود، ليثبت بذلك وجود القصد في ظهور الجمال في الطبيعة.

[3] - جان بول سارتر: ما الأدب، تعريب د. محمد غنيمي هلال، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ص58.

[4] - العلم في منظوره الجديد-مرجع سابق، ص71-72.

[5] - نفسه ص72

[6] - جاء النص كالتالي: "فلماذا لم يمتد مداها حتى تصل..."، ويبدو أن كلمة "لم" قد وردت خطأ، ولذلك حذفناها من النص.

[7] - في النص ورد كلمة (الاستماع) بدل الاستمتاع، ولعله خطأ مطبعي.

[8]- العلم يدعو للإيمان، مرجع سابق، ص119.

[9] - لورنس ملني، ومارجري ملني: الحواس في الإنسان والحيوان، تعريب د. ثابت قصبجي، المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر - بيروت، بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر - نيويورك، 1966م، ص10.

[10] - نفسه ص61.

[11] - الترديد بين إلغاء الصدفة وبين استبعادها وانخفاض درجة احتمالها، يرجع إلى الاختلاف بين المناهج المتبناة لدى الفلاسفة والعلماء.

[12] - يحاول بعض المنظرين حلّ هذه المعضلة بطرح فرضية مفادها أن تطور بعض القدرات قد يحصل بصورة مستقلة عن الحاجة إليها، فيتخيل (سيناريو) لتطوّر بعض الأعضاء، ليس له أي دليل علمي عليه، وهو مع ذلك يتمسك به ويجعله قاعدة من قواعد التطور.

انظر: "جيمس تريفل": هل نحن بلا نظير، تعريب ليلى الموسوي، ص108 وص180، والكتاب من سلسلة "عالم المعرفة" الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 323.

[13] - العلم يدعو للإيمان، مرجع سابق، ص136.

[14] - العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص178.

[15] - نفسه، ص78.

[16] - نيكوس كازنتزاكي: مذكرات كازنتزاكي، ج1، تعريب ممدوح عدوان، دار ابن رشد للطباعة والنشر، ط1، 1980، ص234.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية