صور الإرهاب الصهيوني خارج السجون
لا أعتقد أن شاعرًا فلسطينيًا أغفل عن شعره صور الإرهاب
الصهيوني التي تقترف كل يوم بحق الأبرياء، فكما أن صور
الإرهاب هذه لا تغيب عن عيون وأجساد الفلسطينيين، فإنها لا
تغيب أيضًا عن قصائد الشعراء، فهم يتعرّضون كسائر
المواطنين لشتى ألوان الاضطهاد، والشعب الفلسطيني جميعه
معرّض للمعاناة نفسها، مواطنين ومسؤولين، حكامًا ومحكومين،
فمنذ سنة 1948م عام النكبة، وصور الإرهاب تتواصل، بل تزيد
وسائلها وأشكالها، وها نحن اليوم على مشارف العقد الثاني
من القرن الحادي والعشرين والصهيونية تزداد وحشية وبربرية
في ظل صمت عالمي قاتم، ولا ريب أن الشعر الفلسطيني
-والعربي بشكل عام- تاريخ طبيعي وأدبي وفكري لمأساة
الفلسطينيين، وحياتهم المشبعة بالقهر والعذاب، وقد برع
الشعراء الفلسطينيون في رصد وعرض صور الإرهاب الصهيوني،
حيث إنها أصبحت وثيقة دامغة وشواهد حية على مجازر العدو
الوحشية، وانتهاكاته المتواصلة لشرعة حقوق الإنسان، وضربه
عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية التي تحمي حقوق
المواطنين بالأمن والحرية والحياة الكريمة.
ففي أقصوصة صغيرة يتحدث سميح القاسم في قصيدة
عنوانها (فراشه) على ألوان العذاب الذي يعانيه الفلسطينيون
في حياتهم اليومية خارج السجون، حيث تأثير الإرهاب أعمّ
وأشمل:
صدفةْ...
حوّمت حولَ الوردة الحمراءِ صُدفةْ
حوَّمتْ طائرةُ الهليكوبتر السوداء صدفةْ
قذفت قِنبلةَ اللون على الطلاب صدفةْ
أطلقتْ قنبلة الغاز على المنزل واللوزة والوردةِ
صدفة
كنتِ في الوردةِ في اللون وفي الغازِ
وصدفةْ. أغلق الموتُ على المنظرِ شُرفةْ()
وما أقساها من صدفة، ومن الملاحظ أن الشاعر خرج على الوزن
والتفعيلة مطلقا، وترك لشاعريته العنان تنسج كيف تشاء من
غير حدود، في لغة واضحة جلية معبّرة، إنّ الشعر وهو في هذه
الواقعية يستطيع أن يستفز الشاعر، بعكس ما لو كان سرياليًا
غامضًا يعتمد الرموز المغلقة في الشعر.
وهناك مقطع من قصيدة أخرى تغرق في النثرية من رأسها حتى
أخمص قدميها:
عنوان: ولد يرفع الأعلام على أعمدة الكهرباء
أقصرُ من عمركْ، مسافةُ الموت الذي يمتد من بنادق الجيش
إلى ظهركْ()
كما تتجلى صورة الإرهابيين الصهاينة وتصرّفاتهم مع سائق
تاكسي، توهَّمَ أنهم مسالمون.
والشاعر يتحدث هو لسائق التاكسي عما فعله به الصهاينة:
خارج البلد استوقفوك فلم تترددْ
حلمت بأجر سخيّ عن السَّفرة الهيّنة،
قلتَ في سرك الساذج: الآن قد وقعوا
التيوسُ الأجانبُ، لا يعلمون بأسعارنا المعلنةْ
إنهم ذاهبون لمستوطنةْ
وفتحتَ لهم باب أوجاعك المزمنةْ
عندما أفرغوا باغةَ الفرد في صدغك الساذج
ارتجفت،
"ربما" ارتجفتْ لوزةٌ وبكت مئذنةْ()
هكذا مع المواطنين، في أعمالهم، في متاجرهم في مدارسهم، في
حقولهم ومنازلهم، صور الإرهاب والتنكيل لا تنتهي، والملاحظ
أن الشاعر في القصيدة السالفة لم يلتزم بوزن ولا بتفعيلة،
كما فعل في غيرها مما أشرنا إليه، إنه سميح القاسم
شاعر المقاومة.
والقصة التي عرضها واضحة سلسة واقعية، وكأنه مصور حاذق
لدقائق الأمور.
وما زلنا مع سميح القاسم، ولعله أكثر الشعراء
الفلسطينيين عنفوانًا وثورية، ففي قصيدته (على أكتاف
أشعاري) يخاطب الصهاينة الإرهابيين قائلاً:
لمن هذي السياط الحمر والأغلال والبارودْ
ويجيب هو أنها: لنسر القمة المفؤودْ
لدوريّ يجوب الأرض منفيًا
لحرفٍ عوَّد الأحزان أن تغلي
هنا يستعمل الشاعر التفعيلة (مفاعيلن مفاعيلن) بأسلوب
موسيقي جميل أخّاذ، ولغة تتسم بالقوة، وبهذا التساؤل
المرّ، عبر سرد صور الإرهاب التي يستخدمها العدو الصهيوني.
وتأمّل هذا السيل الجارف من العبارات الدالة على الإرهاب
الصهيوني، هكذا يتحدّث سميح القاسم مخاطبًا العدو
الصهيوني:
أنا يا بابي المغلقْ
على مرّ الليالي السودْ، أحسّ بنكبتي أعمقْ
أحسّ بأحرفي شوقًا لأن تحرقْ
أنا عاهدت حتى الموت، أطفالي وآلهتي
وأتت تريد معصيتي
كفى يا أتفه الأوثان لن أنسى
إله اليتم والأحزان والتشريد... لا تغضبْ
إذا ما دمَّعتْ عيناك جوف دخان أشعاري
فمنا جثث الأحباب، ومن ساحاتنا الحفرةْ
إله الحرب لا تغضبْ،
فمن يُتمي، ومن حزني، ومن جوعي، ومن عاري
يشبّ لهيب أشعاري
ولن أتعبْ، من الجرح الذي غمدت في مجراه أوتاري()
أرأيت هذا السيل الجارف من استعراض صور الإرهاب الفاشيّة
الدامية، بحق هذا الشعب المعذب، والشاعر إذا تحدّث فهو
يمثّل ويتحدّث باسم الشعب الفلسطيني كله دون استثناء، وقد
حافظ إجمالاً على التفعيلة (مفاعيلن) بأسلوب رقراق عذب فيه
صور خلابة وواقعية في الوقت نفسه.
وتبرز صور الإرهاب الصهيوني بوضوح في قصيدة الشاعر
الفلسطيني معين بسيسو وهو يتحدّث عن شهيد:
يا مثقل الكفين بالأوراق في عصف الخريف وبالثمارْ
الليل ليس له صديق والنهارْ
والشاعر معين بسيسو أحسّ بعمق مأساة شعبه،
فكانت محاولة إسكات صوته، ولكنه لم يأبه ولم يكترث لأي
شيء، فهو مصرّ عنيد في طلب الحق، من أجل مصلحة شعبه، وهو
وإن ظهرت على شعره مسحة من الرمزية ، أضفَتْ على تعابيره
بعض الغموض، فهذا ناشئ عن ظروف سياسية عاشها الفلسطيني
خارج الأرض المحتلة، وهو في القصيدة التي سنعرضها يظهر
بسيسو ملتحمًا مع شعبه وقضيته، يحمل مآسي هذا الشعب
ووجدانه، ويعبر عنها خير تعبير، فهو في قصيدته (كأس الخل)
يترجم كل هذه المعاني التي أشرنا إليها، يقول معين:
واقترعوا يا شعبي
من يأخذ ثوبي بعد الصلبْ...
كأس الخل بيمناي
وإكليل الشوك على رأسي
باراباس ابن السكين طليقٌ
وابنك يا شعبي
ساقوه إلى الصلب وللرجمْ
لن أهرب من كأس الخلِ
وإكليل الشوكْ
وسأنحت من عظمي مسمار صليبي
وسأمضي
أبذر قطرات دمائي في الأرضْ
إن لم أتمزّقْ... كيف ستولد من قلبي
كيف سأولد من قلبك يا شعبي()
تلك صور الإرهاب واضحة جلية في النص، تكشف عن رعونة العدو
وبربريته، وعن بطولة الشاعر وعنفوانه الذي لا يتزعزع،
يكرّسه للتضحية في سبيل شعبه.
وتأمّل هذه الأبيات التي تُعرّي العدو الصهيوني وتكشف عن
صور إرهابه المقيت، وعن إصرار الشعب المناضل على الثأر من
القتلة والسفاحين، جاء ذلك في قصيدة من ديوان (المعركة):
أخي من خلال حبال السياط ومن حلقات القيود الثقالْ
تطلع إلى وطن الكادحين وقد شنقوه بسود الحبالْ
أخي، من هنا سوف تجري السيولْ
فتجرف أغلالنا والوحولْ
ويثأر من قاتليه القتيل()
هنا على خلاف قصائده السابقة يلتزم الشاعر التفعيلة
والقافية، بأسلوب أكثر وضوحًا وواقعية.
ويصوّر الشاعر يوسف الخطيب مدى تحمّله لإرهاب العدو
الصهيوني الذي تجاوز كل الحدود:
تحدّيت أن شعبي يباع، وموطني
يباح، وأن أغلي الحصى قوت أطفالي
صعاب دروبي، في الموات اجتبيتها
وفي الشوك والجلمود، والأفق العاري
ويا أيها الجلاد أوثقت معصمي
فمن أين يا جلاد توثق إصراري()
|
والخطيب هنا شانه شأن جميع الشعراء الفلسطينيين، عرض
لمجازر وإرهاب الصهاينة، وإصرار على الكفاح والصمود،
بأسلوب واضح يتسم بالواقعية والقوة، في ظل تشتت في تفعيلة
النص أحيانًا، وتتجلى الصور الإرهابية في الشوك والجلمود
والجلاد وتكبيل المعصم وسلب أقوات الأطفال.
وفي قصيدة تتسم بالبساطة والسلاسة والعذوبة على التفعيلة
الراقصة (فَعْلَنْ فَعْلَنْ )، يتحدث الشاعر توفيق زياد
على صور الإرهاب الصهيوني المتمثل في العذاب الشديد
والقيود الثقيلة وانتشار الجوع والبطالة التي كَوَت الشعب
ورمته في أتون الحاجة:
ومن أين تأتي النقودْ
وقد أصبحت أمنيات جميلةْ
وأحلام شعب يقاسي العذابْ
ويبلو حديد القيود الثقيلةْ
لوى فكّه الجوع ليا
ونار البطالة تكويه كيّا
سعى في مناكبها
وباع من الفقر بيتًا، بناه بكد وكدحِ
وباع السراج وباع الفتيلةْ
ليطعم أفراخه الجائعين()
وتظهر الصور عادية من صميم الواقع بعيدة عن العمق والقوة،
إنما هي ثبت وعرض لمعاناة شعب صامد، سلبه الإرهاب الصهيوني
علة حياته حتى اضطر لأن يبيع كل شيء تقريبًا.
وانظر إلى هذه المقطوعة التي جمعت على وجه التقريب معظم
صور الإرهاب الصهيوني للشاعر الفلسطيني حنا أبو حنا:
كيف العزاء وكيف يسلو الويل شعب ثاكلُ
عصفت بروحه الخطوبُ وصارعته نوازلُ
ما زال يحملُ جرحَه في صدره ويطاولُ
وتسير في درب الدماء على خطاهُ غوائلُ
نبتتْ كأنياب الوحوش تنوشه وتصاولُ
أبدًا تطوف على الرقاب معاولٌ ومناجلُ()
|
تصوير واضح واقعي لحياة الفلسطينيين الشاقة والدامية تحت
سياط الإرهاب الصهيوني، ولولا الإشكال في التفعيلة الثانية
من البيت الثاني لكانت استقامت القصيدة كلها على (مستفعلن
أو متفاعلن)
وننهي هذا القسم بجزء من قصيدة (سوط) للشاعر
الفلسطيني العربي محمود درويش، وهي رمز للتحدي
والصمود والشموخ، وفيها عرض لبعض صور الإرهاب الصهيوني
بأسلوب جمالي خلاب، منتزع من صميم الواقع الفلسطيني، وهي
من شعر التفعيلة مبنية على (مستفعلن متفاعلن)، ذات مقاطع
موسيقية موحية، تكشف عن شاعرية فذة:
يا سيداتي ساداتي
شامخين على الحرابْ
الساق تقطع والرقابْ
والقلب يطفأ لو أردتم والسحابْ
يمشي على أقدامكم،والعين تُسمل والهضابْ
تنهارُ
ألا صحتم بها، ودمي المُمَلح بالترابْ
إن جفَّ كرمكم يصير إلى شرابْ، والنيل يسكب في الفراتِ
إذا أردتم والغراب، لو شئتمُ
في الليل شابْ... لكن صوتي صاح يومًا
لا أهابْ
فلتجلدوه إذا استطعتم واركضوا خلف الصدى
ما دام يهتف لا أهابْ()
يتبع ==
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|